مأساة الباحث "لمين مرير" في الفيزياء النووية..كان أستاذا في جامعة أمريكية فعاد إلى الجزائر وانتحر
المأساة حدثت في ذكرى عيد العلم لعام 2001، فبينما كانت قسنطينة تحتفي بذكرى رحيل العلامة بن باديس، وبينما كان رئيس الجمهورية في أول زياراته لجامعة الأمير عبد القادر ليكرم العالمة العراقية الدكتورة "وقار عبد القهار الكبيسي" كان عبقري الجزائر "لمين مرير" قد اختار نهايته المأسوية حيث اختار جسر الملاح المعلق بقسنطينة في عملية انتحار لم تشكل أي حدث للأسف في مدينة يقال عنها عاصمة العلم ومناسبة يقال عنها يوم العلم..
لم يرتكب المرحوم "لمين مرير" في حياته أي ذنب سوى التفوق والعبقرية منذ أن ولد في 26 مارس 1953 بقسنطينة ضمن عائلة علم ودين فيها البروفيسور في الطب والباحث ومعظم إخوته يتبؤون مقاعد القمة في أوروبا، ولكن "لمين" كان كوكبا حقيقيا، فقد حصل على شهادة البكالوريا من ثانوية رضا حوحو بقسنطينة واختار الدراسة البوليتقنية بمعهد الحراش الذي كان يعج بالأساتذة الأمريكيين الذين أذهلتهم عبقرية لمين الذي انتزع المركز الأول وحصل على شهادة مهندس دولة ومنحة الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية ولم يكن عمره قد جاوز العشرين، إذ انتقل إلى جامعة (ميتشغين) بالولايات المتحدة وراح يحصد الشهادات الكبرى في معهد الفيزياء النووية وعندما بلغ محطة دكتوراه دولة في الفيزياء النووية اقتنعت أمريكا (أمركة) لمين، فمنحته الكثير من زينة الدنيا وأصبح (معبد) في جامعة ميتشغين حين تتلمذ على يديه علماء الفيزياء النووية في الولايات المتحدة والعالم بأسره، ورفضت أمريكا سفره إلى أي بلد آخر، وصار يبحث عن أي ذريعة لزيارة أهله بقسنطينة إلى درجة أنه طلب من والده أن يبعث له رسالة يخطره بوفاة أحد أفراد العائلة حتى تسمح له أمريكا بالعودة إلى الجزائر، وبمجرد أن بلغه التليغراف حتى وجد الفرصة لتجاوز عقد العمل الأبدي مع الجامعة فعاد إلى الجزائر وإلى عائلته وبدأ يفكر في نقل عبقريته إلى بلده حيث أدى واجب الخدمة الوطنية في الملاحة البحرية بالمرسى الكبير، وحاول بعد ذلك أن يجد لنفسه منصبا (دكتور دولة في الفيزياء النووية) في المنظومة التوظيفية، ولكن الصدمات العنيفة صفعته بقوة، فتارة موظف بشركة سوناكوم تحت إمرة من لم يدخلوا حتى الثانوية، وتارة أخرى في بطالة إلى أن وجد نفسه متعاقدا في مصالح الغابات (تشغيل الشباب) مقابل مبلغ زهيد لا يكفي خبز يومه..
الصدمة كانت صفعة قوية جعلت الرجل يعتزل العالم، صار يقرأ بنهم ويلتهم أي صحيفة أو كتاب باللغة العربية أو الفرنسية أو الانجليزية يقع بين يديه، كانت السنوات تمر ولا شيء يوحي أن الجزائر التي أنجبت هذا العالم العبرقي ستتذكر ابنها.. وأصبح لمين حديث شباب حيه (باب القنطرة).. كلهم يعرفون أنه حلم الجامعات العالمية، وكلهم يعجزون أن يقدموا له يد العون، أو لنقل يقدمون لأنفسهم ولبلدهم يد العون في مدينة كانت عاصمة للعلم وصارت للأسف عدوة له، لمين صمد برغم الصدمات، كان يتابع حصول أترابه من الأمريكيين وحتى تلامذته من الأمريكيين على جوائز نوبل في الفيزياء، ظل يتابع ما حققه رفقاؤه في "النازا" وكبريات كليات المعمورة حتى بلغ سنة 48 اقتنع أن قطار العلم قد فاته ثم أقنع نفسه أن قطار الحياة فاته، ولأن ما بين العبقرية والجنون شعرة، فقد اختلطت الأمور على لمين فانسحب في صمت بين أزقة مدينة كانت مزينة بشعارات العلم وصور الشيخ بن باديس والرئيس بوتفليقة وألقى نظرة (حب) أخيرة على سفوح جسر (الملاح) ورمى بنفسه إلى أعماق الجسر حيث لا قهر ولا احتقار للعباقرة، وحتى لا تنسوا فلمين مرير حاصل على دكتوراه دولة في الفيزياء النووية بأمريكا.. وحتى لا تنسوا فقد انتحر في يوم العلم.
فاجعة الدكتورة البروفيسور آسيا بريريش..من وزيرة للصحة إلى نزيلة مستشفى الأمراض العقلية
في بداية الثمانينيات عندما قرر الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد منح أول حقيبة وزارية لامرأة جزائرية، جاء الاختيار أولا على امرأة حديدية من طينة العباقرة تدعى الدكتورة آسيا بريريش، فكان الإجماع على أن منصبها الحقيقي لا يتوقف على عمادة الجامعات وكليات الطب وإنما الوزارة وما بعدها، فتمت مراسلتها فعلا لحمل حقيبة وزارة الصحة، ولكن المرأة العالمة المتواضعة ردت ببساطة بأنها خلقت من أجل تكوين الأطباء الشباب وتأسفت للرئاسة بلباقة داعية للوزير القادم بالنجاح أمام دهشة المسؤولين، ليتم بعد ذلك تعيين السيدة زهور أونيسي كأول وزيرة في تاريخ الجزائر المستقلة، وهي من نفس مدينة الدكتورة بريريش أي قسنطينة..
هذا التواضع والتفاني في العمل كان نتاج تكوين هذه المرأة الحديدية التي درست جراحة الأسنان في العاصمة رفقة وزير الشباب والرياضة الأسبق مولدي عيساوي، ثم تنقلت لإكمال دراستها بمعهد تركيب طواقم الأسنان بجامعة جنيف بسويسرا، حيث عرض عليها التدريس في سويسرا ولكنها عادت إلى أرض الوطن، لتساهم في بعث كلية جراحة الأسنان في قسنطينة وخاصة كلية الطب في جامعة عنابة رفقة الوزير الأسبق أبركان والدكتورة منتوري، ثم تحولت إلى غاية عام 1981 إلى عميدة لكلية الطب بعد سنوات السبعينيات التي نهلت منها من الجامعة السويسرية لتتحول إلى ظاهرة علمية تتميز بالخصوص بحرصها على نقل المعارف للطلبة والدفاع عن العلم إلى درجة أنها صاحت في وجه وزير التعليم الأسبق السيد رحال وكسرت حكاية (كل شيء على ما يرام) وأحرجته بانتقاداتها وصراحتها من أجل طالب متفوق.. يقول عنها الدكتور صالح حنفوك "إنها ظاهرة علمية صعبة التكرار، لقد كانت علما يمشي بين المخابر، لم يكن يهمها شيء سوى العلم، لقد حاولنا في السنوات الأخيرة في اليوم العالمي للصحة وفي غيرها من المناسبات ولكن المرأة غائبة بسبب وضعيتها النفسية الحرجة جدا"..
السيدة آسيا، التي بلغ سنها الستين وهي بروفيسور في طب الأسنان والتي أمضت أزيد عن ثلث قرن في التدريس، ساءت أحوالها الصحية لأسباب اجتماعية، ومعظم سكان قسنطينة ألفوها منذ أربع سنوات وهي تجوب الشوارع في كامل زينتها لتقف أمام المرايا تحدث نفسها بلغة فرنسة يحسدها عليها نيكولا ساركوزي، وتدهورت حالتها في غياب أي تكفل بحالتها إلى درجة العنف، حيث دخلت منذ شهرين مقهى بقلب المدينة وطعنت بواسطة خنجر صاحبها الذي جاوز سنه الستين.. هل كانت البروفيسور آسيا مذنبة؟! حتى ضحاياها لم يتابعوها قضائيا، فالمرأة ما عادت تدري في أي عالم هي، ماذا لو بقيت في سويسرا لتمتهن تعليم الأجيال؟!! ماذا لو قبلت عرض الرئاسة في حمل حقيبة وزارة الصحة؟!! كلها "لولوات" لن تغير من حال آسيا وحال الجزائر شيئا، فالدكتورة العبقرية ترقد حاليا على سرير في مستشفى الأمراض العقلية بجبل الوحش بأعالي مدينة قسنطينة لا تدري ما يدور من حواليها، يكفي القول فقط إن مستشفى قسنطينة العريق الذي ساهمت في إيصاله للعالمية منحوا إدارته في بداية الألفية الحالية لمدير لا يملك حتى شهادة البكالوريا، ويكفي القول إن قسنطينة منحت لوزارة الصحة في الألفية الحالية وزيرين هما من معارف الدكتورة آسيا وهما عبد الحميد أبركان ويحيى ڤيدوم!!
الدكتور إسماعيل بوجعدار
المزيد