استدعى المدير، وهو من بلد أوربّي، احد موظفيه من العرب إلى مكتبه لأمر مهم. وعندما جلس الموظّف على كرسيّه خاطبه المدير قائلا: تعرف جيّدا انه لا يربطنا معا أيّ نوع من الودّ أو الصداقة. فنحن مختلفان جدّا في كلّ شيء تقريبا. ومنذ أن عُيّنت في هذا المنصب قبل عام، حاولت جاهدا أن أفهَمك وأن أتفهّم بعض تصرّفاتك وردود أفعالك. لكنّي لم افلح أبدا. أنا وأنت على طرفي نقيض كما يبدو. هذا ما أنا متأكّد منه. نحن مختلفان في طريقة التفكير وحتى في اللباس والذوق، بل وفي اصغر الأمور شأنا". وأضاف: كلّ هذه الأمور خطرت لي وأنا اشرع في كتابة التقرير الخاصّ بتقييم أدائك".
كان الموظف يستمع إلى كلام رئيسه بكثير من التوجّس والخوف. وكان يدرك أن كلام الرجل لا يبتعد كثيرا عن الحقيقة. وعلى كلّ حال، لم يكن رأيه هو في رئيسه يختلف كثيرا عن رأي رئيسه فيه. كلاهما كانا دائما متنافرين ومتباعدين على المستوى الشخصي والإنساني.
قال المدير متابعا كلامه: صحيح أنني قد لا أستسيغك ولا ارتاح لشخصك. لكن هذا لا يمنعني من الاعتراف انك من أفضل الموظفين هنا جدّية وإخلاصا ومثابرة. وقد قدّرت أن من الأفضل أن أطلعك على تقرير الأداء الخاصّ بك كي تكون الأمور واضحة ولمنع أيّ التباس أو سوء فهم. والأمر الآخر هو أنني أحبّ أن تكون قراراتي مدروسة ومحكومة بأكبر قدر من الشفافية والمصارحة".
ثم دفع إليه بالتقرير. وما أن رأى الموظف مضمونه حتى أصابته المفاجأة وعقدت الدهشة لسانه. فقد نال الدرجة الكاملة تقريبا في كلّ شيء. كلّ أجزاء التقرير كانت تحمل علامة امتياز. وكانت هناك ملاحظة مقتضبة في آخر صفحة تتضمّن ثناءً على مهارات الموظف وإشادة بأفكاره المتطوّرة والمبتكرة وتوصية بترقيته إلى مرتبة أعلى من مرتبته الحاليّة.
سمعت القصّة السابقة من صديق وتذكّرت قصّة مشابهة لها كنت احد شهودها. في هذه الحالة، كان المدير عربيا والموظف الذي يعمل تحت إشرافه خبيرا من احد بلدان أمريكا اللاتينية. ولم يكن قد مضى على تعيين ذلك الخبير في وظيفته سوى شهرين وعشرين يوما. أي انه كان ما يزال في طور التجربة.
وذات يوم جاء مديره إلى الرئيس وقال له: تعرف الخبير المعيّن حديثا في إدارتنا. قال: نعم. قال: هذا الرجل اعتبره من أفضل الأفراد لدينا. خبرته نادرة وأداؤه من أحسن ما يمكن. هو مجدّ في عمله ودقيق في مواعيده. كما انه لا يتأخّر عن إسداء النصح والمساعدة لمن يطلبهما من زملائه. وباختصار، هو موظف نموذجي وقدوة في كلّ شيء". ردّ الرئيس قائلا: هذا عظيم. هل افهم إذن من كلامك انك موافق على أن الرجل اجتاز مرحلة التجربة بنجاح وأنك تريد الاحتفاظ به؟ قال المدير: لا. ليس هذا بالضبط ما عنيته. فعلى الرغم من كلّ ما يتمتّع به من مميّزات وخصال، إلا أنني لا أريده في القسم ولا اطمح أن يستمرّ معنا. وقد حاولت جهدي أن أغيّر هذا الانطباع ولم استطع. أنا متأسّف أن أقول إنني لا أطيق هذا الرجل ولم أعد احتمل رؤيته معنا في القسم لسبب لا يد لي فيه على الإطلاق. وأضاف: لا أدري، أشعر بأنه معتدّ بنفسه كثيرا وإلى حدّ الغطرسة أحيانا رغم ما يبدو عليه من علامات الرصانة والوقار. وقد جئت لأقول إنني أريده أن يرحل وحبّذا لو بحثتم عن شخص آخر يحلّ مكانه بأسرع وقت".
كان الرئيس يستمع باستغراب وذهول إلى حديث ذلك المدير. وقد اختار أن ينهي النقاش عند ذلك الحدّ على وعد بأن يوافيه برأيه في المسألة لاحقا.
في ما بعد، طُلب منّي أن ابدي رأيي في الموضوع فقلت: اعتقد انه لا يجوز التعويل على ما قاله المدير عن ذلك الموظف. وأرى أن حجّته تفتقر إلى النزاهة الأخلاقية والمهنية. كما أن ما قاله عن الرجل يدلّ على سذاجته وتخلّف تفكيره عندما قدّم المسائل الشخصية على الاعتبارات المهنية ومصلحة العمل. وأنا إلى الآن لم اسمع اغرب من هذا الكلام، بل ولم يخطر بذهني يوما أن يأتي شخص في موقع مسئولية ليقول بكلّ جرأة وصفاقة انه يريد أن يستغني عن موظف لأن وجهه أو لون عينيه أو طريقة لباسه لا تعجبه. ولو شاع مثل هذا التفكير الطفولي بين المسئولين، فقل على الإدارة السلام". وختمت كلامي بالقول: أنا اعرف ذلك الموظف جيّدا ومتأكّد بأنه من خيرة الموظفين أداءً وخلقا. قد يكون وراء الأكمة ما وراءها كما يقال، وهناك احتمال وجود دوافع شخصية قد لا نكون على علم بها. والأفضل والحالة هذه أن يُرفع الموضوع إلى الإدارة العليا كي ترى رأيها فيه".
المهم انه بعد نقاشات مطوّلة وكثير من الأخذ والردّ، خضع الجميع لرأي المدير الصغير وتمّ بالفعل إلغاء عقد ذلك الموظف على الرغم من جميع التحفّظات والاعتراضات. وعندما علم بأمر إنهاء عقده جاء إلى الإدارة غاضبا وقال: رغم أنني لا أعرف سببا منطقيا لفصلي عن العمل، إلا أنني سأنصاع مضطرّا لقرار الإدارة. لكن ليكن معلوما للجميع أنني لن اتأخّر عن اللجوء للقضاء في بلدي ورفع قضيّة ضدّكم إذا ما ترتّب على هذا القرار إضرار بمستقبلي الوظيفي والمهني". وانتهت القصّة عند هذا الحدّ.
الدرس المستفاد من هاتين القصّتين ومن عشرات القصص المماثلة هو أن المفاهيم الإدارية وقيم العمل عندنا ما تزال متخلّفة ومحكومة بالتخبّط والاعتبارات الشخصية قياسا إلى ما هو موجود في البلدان المتطوّرة والعالم المتحضّر.
ومن هذه الناحية أتصوّر أن الغربيين أكثر إنسانية ونزاهة منّا عندما يتعلق الأمر بالممارسات الإدارية وقيم العمل. عندنا محسوبية وفساد ومحاباة وسوء إدارة، وعندهم من الأخلاقيات والمثل الرفيعة كالمساواة والنزاهة والشفافية ما أهّلهم لأن يتفوّقوا علينا وأن يحققوا من الانجازات الحضارية والنجاحات المبهرة ما لا نحلم نحن بتحقيقه ولو بعد عشرات السنين.