يعتبر لورنس العرب من أشهر شخصيات الربع الأول من القرن العشرين؛ فاسمه
اقترن في كتب التاريخ بثورة الشريف حسين –
أمير الحجاز – ضد الحكم التركي عام 1916م وهناك العديد من الكتب في أكثر من لغة
تناولت سيرة حياته وأظهرته بطلاً من أبطال الإمبرطورية البريطانية نتيجة
للدور الهامّ الذي لعبه إبّان الحرب العالمية الأولى كونه ضابط ارتباط بين
القيادة العسكرية البريطانية والثورة العربية الكبرى ضد الأتراك،
وقد تحوّلت قصته لفيلم سينمائي معروف ظهر فيه باللباس العربي على الخيل والجمال زعيماً لقبائل البدو وملكاً غير متوج
للعرب.
من هو لورنس العرب ؟ولد توماس إدوارد عام 1888م في (ويلز) بإنكلترا، تزوج
والده من إيرلندية أنجبت له 4
بنات
ولكنه هجرها ليعيش مع مربية بناته دون زواج وأنجب منها 5 ذكور كان لورنس الثاني من
بينهم.
عاش لورنس متفوقاً في دراسته ينال المِنح المدرسية
والجامعية، وكان منذ صِغره قوي البنية نشيطاً ذكياً يتميّز بقوّة الذاكرة وحبّ
المغامرة والصبر على المتاعب. تخصّص في علم الآثار في جامعة أكسفورد
الأمر الذي دفعه للاهتمام باللغات فتخرّج وهو يجيد الفرنسية واللاتينية
واليونانية، وأثناء تحضيره لرسالته الجامعية التي كان موضوعها (الفن
المعماري الحربي عند الصليبين في الشرق) قام بزيارة القِلاع التي بناها الصليبيون،
وتلقّى شيئاً من اللغة العربية قبل سفره، وزار سوريا وبيروت وغيرها، قطع خلالها مسافات
شاسعة وحده مشياً على الأقدام على طرق أكثرها غير معبّد وبراري غير
مأمونة يبيت عند الفلاحين والبدو في خيامهم يُشاركهم المأكل والمشرب وشظف
العيش ممّا ساعده على إجادة اللغة العربية (1).
وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى راحت كل من الدول الكبرى:
فرنسا، وبريطانيا وروسيا وألمانيا تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة، منها: توسيع رقعة نفوذها
والسيطرة على الأماكن الاستراتيجية وعلى منابع النفط… لذلك أخذت
بريطانيا ترسل عملاءها إلى المنطقة؛ فاستدعت القيادة الإنكليزية أصحاب
الخبرة في البلاد العربية ومنهم لورنس الذي التحق
بسلك المخابرات العسكرية، وعندما دخلت تركيا الحرب في أواخر عام 1913 عُيّن لورنس في
القاهرة مشرفاً على شبكة للتجسس كان هو يختار أعضاءها بنفسه، ومن مُهماته تهيئة
الخرائط العسكرية وضبط وتنظيم المعلومات الواردة التي تُؤخذ من الأسرى والفارين من الجيش
العثماني وتنسيقها مع المعلومات الواردة من الجواسيس. ولكي يقوم بوظيفته
تلك على أكمل وجه تمّ إعداده، فنُظِّمت مطالعاته لاسيما فيما يتعلّق بالتاريخ الحربي حتى
يقال إنّه قرأ كل ما له علاقة بالفروسية وبالقرون الوسطى، وقرأ حوالي 25
مجلّداً خاصاً بنابليون، وبعد ذلك قرأ معظم كتب الحرب العائدة إلى القرن
الثامن عشر. ولم يقم لورنس يشحذ ذهنه فحسب بل قام بتدريب جسده على تحمّل المشاق؛
ويروي أحد أصدقائه أنّه كان يختبر طاقاته على التحمّل بالانقطاع
عن الطعام لمدّة يومين أو ثلاثة أيام وبالسير مسافات طويلة في الصحراء
إبّان فصل الشتاء وبالتغلب سباحة أو تسلقاً على أي حاجز مائي أو جبلي يعترض
سبيله، وبقضاء أمسيات طويلة وحيداً في حقل الرماية يتدرّب على إطلاق
النار حتى أضحت يساره تُضاهي يمينه في استعمال الأسلحة النارية، وبقطع
المسافات الطويلة راكباً دراجته دون توقف إلى أن يقع تحت وطأة الإعياء على حافة
الطريق (2).
وليس هذا كل ما في الأمر، ذلك أن لورنس يُعتبر من أشهر أدباء عصره؛
فكتابه (أعمدة الحكمة السبعة) التي يصف فيها ثورة العرب هو من أوسع المؤلفات الإنكليزية انتشاراً، وما استطاع
الوصول إلى ما وصل إليه إلا بالدأب والصبر وقطع الصحراوات على ظهور
الإبل وهو ابن الثلج(4) لذلك صدق فيه قول الشاعر:
لا تحسبنّ المجد تمراً أنت آكله لن
تبلغ المجد حتى تلعق الصََّبِِرا
فلورنس هذا قاد الأعراب
حتى حاز على دمشق وظل ينهك الجيش العثماني، وقد أدى لوحده – وفي سبيل قضيه باطلة – ما يؤديه
جيش كبير، حتى أنّه خدع نفراً من الضباط العرب في الجيش العثماني فكانوا معه في مسيرته تلك من الحجاز
إلى حلب (5).
والقاعدة تقول: إنّ من يزرع لا بدّ أن يحصد، فإذا نظرنا إلى
واقعنا اليوم نجد أن العالم الإسلامي يتخبط في دوامة يبدو أنّها لن تنتهي من المسرحيات
المذلّة والمنهكة للعقل العربي والمستنزفة للطاقات
العربية كافة، وهذا نتيجة تقاعس أبنائه
وابتعادهم عن النهج القرآني…
إنّ أوّل وأهم ما يسترعي الانتباه أنّ لورنس لم يكن يهمه
من أمر العرب شيئاً فهو لم يكرّس نفسه لإنشاء
دولة عربية موحدة كما يُشاع لأنّه كان يُقدّم مصلحة بلاده على أي شيء آخر، ومصلحة
بريطانيا تقضي بإبقاء الشرق الأوسط منقسماً على ذاته، يقول لورنس في أحد تقاريره:
لو تمكنا من تحريض العرب على انتزاع حقوقهم من تركيافُجاءة وبالعنف لقضينا على خطر الإسلام إلىالأبد ودفعنا المسلمينإلى إعلان الحرب على أنفسهم فنمزقهم من داخلهم وفيعقر دارهم، وسيقوم نتيجة لذلك
خليفة للمسلمين في تركيا وآخر في العالم العربي ليخوضا حرباً دينية داخلية فيما بينهما، ولن يخيفنا
الإسلام بعد هذا أبداً(6).
أما تعهده للعرب بمنحهم الحرية فكانت الطريقة المثلى
لجعلهم يشتركون في الحرب، يقول في أحد كتبه: كان علي أن أشترك في المؤامرة… وقد
جازفت بالاحتيالاعتقاداً مني بأن العون العربي ضروري للوصول إلى نصر سريعوقليل التكاليف في الشرق… الربح مع الإخلال بالعهد أفضل من الخسارة(7).
لذلك كانت العقبة الأساسية التي كانت تواجه بريطانيا
وحلفاءها هي الإسلام؛ لذلك سعوا للقضاء عليه عن طريق هدم الخِلافة الإسلامية،
والدليل تقرير سريّ كتبه لورنس عام 1916 بعنوان سياسة مكة أوضح فيه رأيه
في ثورة
العرب :
إنّنشاط الحسين مفيد لنا إذ أنّه ينسجم مع أهدافنا الكبيرة، وهي تفكيك الرابطةالإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية وانحلالها، لأنّ الدول التي
ستنشأ لتخلف الأتراك لن تشكل أي خطر على مصالحنا… فإذا تمكنا من التحكم بهم بصورة
صحيحة فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحسد بعضها البعض ولا يمكن أن
تتحد(8).
لذلك
كان هملورنس في ذلك الوقتالتأثير على زعماء العرب وكسب ود العشائروالقبائل لدفعهم للقيام بالثورة ولو من خلال لبس لباسهموسلك سلوكهم كي يتمكّن من أن يتحكم بهم تحكمالاستعماريين بالشعوب. يقول في كتيب البنود 27 الذي أعدّه لتعليم الضباط على
طرق التحكم بالعرب
: إذا أمكنك لبس لِباس العرب عندما تكون بين رجال القبائل فإنّك تكسب بذلك ثقتهم(9).
و للورنس تصريحات عديدة حول فلسطين، ففي
إحدى المرات طُلب إليه إنكار ما جاء في رسالة فيها شتم وتحقير إلى (د. ماك أنيس) كاهن
الأبرشية الإنكليكانية في القدس، لاعتراض الأخير على فكرة إقامة وطن قومي
لليهود في فلسطين، فرفض لورنس ذلك وعاود الكتابة إلى الكاهن
يلومه على احتجاجه: كان من الأفضل لك أن تفعل شيئاً آخر غير الاحتجاج
لكنك غير صالح حتى لتنظيف حذاء وايزمان(10).
لذلك لم يُخفِ لورنس تأييده لوعد بلفور، فبعد زيارته
لفلسطين رأى أنه كلما سارع اليهود في الاستيلاء على فلسطين وزراعة أراضيها كان ذلك
أفضل. وهذا الرأي عمل لورنس فيما بعد على وضعه موضع التنفيذ.