مقدمات في علم العروض
المقدمة الأولى : أثر الشعر في أمة العرب
حفلت كتب الأدب بعشرات المواقف والأخبار التي كان للشّعر فيها فعل السّحر ، فهو يثير حنق الساكن ، ويهدّئ من غضب الغضوب ، ويحمل على الجهل ، ويدعو إلى الحلم ، ويرفع الوضيع ويضع الرفيع ، إلى غير ذلك من آثاره العجيبة .
ومن عجيب القصص في هذا المعنى قصّةُ تميم بن جميل ، فإنه خرج على المعتصم في أيّام دولته ونزع يده من الطاعة ، ثم جيء به أسيراً وقد اجتمع الناس إليه ينظرون كيف سيقتله المعتصم ، وكان المعتصم قد جلس له مجلساً وأذن للناس بالدخول ، ودخل تميمٌ وفُرِشَ النِّطْعُ( ) ، وحضر السيّاف ، وتميمٌ غير دَهِشٍ ولا وَجِلٍ ، فقال المعتصم : إنْ كان لك عذر فأت به ، فقال : إنّ الذّنوب يا أمير المؤمنين تخرس الألسنة الفصيحة ، وتُعْيِي الأفئدة الصحيحة ، ووالله لقد كَبُرَ الذّنبُ وعَظُمَتِ الجريرة ، وانقطعت الحجّة ، وساء الظّنّ ، ولم يبق إلا عفوك وانتقامك ، ولأنت إلى العفو أقرب ، وهو بك أشبه وأليق ، ثم أنشد ارتجالاً :
أرى الموتَ بين السّيفِ والنّطعِ كامناً
وأكبرُ ظنّي أنّك اليوم قاتـلي
وأيُّ امرئ يأتي بعذْرٍ وحجّة
وما جَزَعي من أنْ أموت وإنني
ولكنَّ خلفي صبيةً قد تركتُهم
كأنَي أراهم حين أُنْعَى إليهـمُ
فإنْ عشتُ عاشوا سالمين بغبطةٍ يلاحظُني من حيث ما أتلفَّتُ
وأيُّ امرئٍ مما قضـى الله يفلِتُ
وسيفُ المنايـا بين عينيهِ مُصْلَتُ
لأعلمُ أنّ المــوتَ شيءٌ مؤقتُ
وأكبادُهم من حســرةٍ تتفتّتُ
وقد خَمَشوا تلك الوجوهَ وصوّتوا
أذودُ الردى عنهم وإنْ مُِتُّ مَوَّتوا
فبكى المعتصم ، وقال : إنّ من البيان لسحراً ، يا تميم ، كاد السيف أن يسبق العفو ، وقد وهبتُك لله تعالى و لصبيتك ، ثم أمر بِفَكِّ قيوده ، وعقد له الولاية على موضعه الذي كان قد خرج منه( ) !
والحقُّ أنّ من موجباتِ هذا الأثر العجيب للشعر امتيازُهُ بالوزن والقافية ، إذ حسن البيان ولطيف التهدّي للمعنى يشركه فيه النثر . والعِلْمان اللذان يعنيان ببيـان هذين الجانبـين ( الوزن والقافية ) هما : العروض والقافية .
وعليه فإنّ ( العروض ) علمٌ معنيٌّ بجانبٍ هو من أشرفِ جوانبِ الشعرِ ، وأكثرِها تأثيراً .
المقدمة الثانية : المبادئ العشرة
قال بعض أهل العلم :
إنّ مبــادئ كل فن عشرة الحد والموضوع ثم الثمـــرة
وفضــله ونسبة والواضـعْ الاسم الاستمداد حكم الشارعْ
مسائلٌ والبعض بالبعض اكتفى ومن درى الجميع حاز الشرفـا
وإدراك هذه المبادئ العشرة في علم العروض يعطي عنه تصوّراً واضحاً وافياً .
أولا : الاسم
العَروض ( بفتحِ العين ) ، وهي كلمة مؤنثة ، ومن معانيها في اللغة :
ـ الناحية كقولهم : أنت معي في عروض لا تلائمني أي ناحية . ومنه العروض وهي الناقة التي تعترض في سيرها ، أي تأخذ في ناحية دون الناحية التي تسلكها . [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي ] . وتطلق العروض " على ناحية الحجاز خاصة " [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 77 ] .
ـ الخشبة المعترضة في وسط البيت من الشَّعر [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 77 ] .
ـ ما يعرض عليه الشيء [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 77 ] .
ـ الطريق في الجبل .
ـ مكة والمدينة .
ـ الناقة التي لم ترض .
ـ البعير إذا فاته الكلأ [ وانظر في كل ما سبق : الصحاح 3/1589 ] .
ثانيا : الحد
" علم يعرف به صحيح أوزان الشعر العربي من فاسدها " . [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 77 ] .
" علم يبحث فيه عن أحوال الأوزان المعتبرة " [ كشف الظنون ]
وإنما سمي هذا العلم عروضا :
1ـ لأنه ناحية من علوم الشعر .
2ـ لأن الشعر معروض عليه ، فما وافقه كان صحيحاً وما خالفه كان فاسداً .
3ـ لأنّ الخليل ألهم العروض في مكة ، ومن أسمائها العروض .
4ـ لكثرة دَوْرِ العروض ( وهو آخر جزء في الشطر الأول تشبيها بعارضة الخباء وهي الخشبة المعترضة في وسطه ) في مباحثه .
فائدة : العَرُوض ( اسمُ العِلْمِ ) لا يجمع لأنه اسم جنس ، والعروض بمعنى آخر جزء في الشطر الأول يجمع على أعاريض على غير قياس كأنهم جمعوا إعريضا [ الصحاح ، للجوهري 3/1589 ] .
[ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي : 17 ، الكافي في علم العروض والقوافي ، للدكتور محمد الشاويش : 11 ] .
ثالثا : الواضع
* هو أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي . ( 100ـ175هـ)
* مما قيل عنه :
ـ قيل : كان يقيم في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فَلْس بينما أصحابه يأكلون بعلمه الأموال .
ـ النضر بن شميل : كنّا نميّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيهما نقدم في الزهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدم .
ـ النضر : ما رأيتُ أحداً أعلم بالسنّة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد .
ـ قيل : لم يكن بعد الصحابة أذكى من الخليل ولا أجمع لعلم العرب .
ـ ابن عيينة : من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد .
ـ السيرافي : كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله .
ـ حمزة بن حسين الأصبهاني : فزعموا أن للخليل ثلاثة أياد عند العرب كبار لم يُسْدِ مثلَها إليهم عربيٌّ منهم : أحدها ما نهج لتلميذه سيبويه من التأتّي لتأليف كتابه . الثانية : اختراعه لأشعارهم ميزانا حذاه على غير مثال . الثالثة : ما منحهم في لغتهم من حصره إياها في الكتاب الذي سماه كتاب العين .
ـ قيل : كان عند رجل دواء لظلمة العين ينتفع به الناس ، فمات وأضرّ ذلك بمن كان يستعمله ، فطلب الخليلُ آنيته فجعل يشمها ويخرج نوعاً نوعاً حتى أخرج خمسة عشر نوعاً ، ثم سأل عن جمعها ومقدارها ، فعرف ذلك ممن يعالج مثله ، فعمله فأعطاه الناس فانتفعوا به مثل منفعة الأول ! ثم وجدوا نسخة الرجل فإذا فيها ستة عشر خلطاً ، لم ينقص الخليل إلا واحداً !!
* وفاته : توفيه حين اصطدمَ بسارية وهو منشغل الفكر بتيسير الحساب ، بحيث تمضي الجارية إلى البقال فلا يمكنه ظلمها . وذلك عام 175هـ .
* سبب وضعه للعروض :
1ـ دعاؤه ربه بمكة أنّ يفتح عليه بعلم لم يسبقه إليه أحد .
2ـ قصة الشيخ الذي كان يعلم صبيه ( نعم لا ، نعم لالا ) .
3ـ سماعه دقّ الكوادين في سكة القصارين بالبصرة .
[ انظر في الخليل ووضعه للعروض : الكافي في علم العروض والقوافي ، للدكتور محمد الشاويش : 7، 12 ، وأهدى سبيل إلى علمي الخليل ، لمحمود مصطفى : 9ـ17]
رابعا : الموضوع
" الشعر من حيث هو موزون بأوزان مخصوصة " [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 78 ] .
خامسا : الاستمداد
مستمد من شعر العرب المرويّ .
سادسا : النسبة
ينتسب إلى علوم اللغة .
سابعا : حكم الشارع
النّدب إلى تعلمه ، ولو قيل بفرضيته الكفائية لم يكن بعيداً .
ثامنا : الفضل
للعروض شرف جليل ، وفضل كبير ، ولا يكاد يستغني عنه دارس العربية . وسيبين ذلك عند الحديث عن ثمراته .
تاسعا : الثمرة
1ـ معرفة الأوزان الصحيحة من الفاسدة
" وإنما وضع الخليل العروض لئلا يخرج خارج عن الوزن كما حظر بالنحو كلام العرب لئلا يحول الناس إلى اللحن " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 41 ] .
2ـ معرفة ما يجوز مما لم يقبله الطبع السليم وعكسه
فالأول : كالضرب الثالث من الطويل إذا لم يقبض ما قبله .
كقوله :
أقيموا بني النّعمان عنّا صدوركم وإلا تقيموا صاغرين الرؤوسا
[ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي : 24 ]
والثاني : كقول البهاء زهير :
يا من لعبت به شمولٌ ما ألطف هذه الشمايلْ
نشوان يهـزه دلالٌ كالغصن مع النسيم مايلْ
[ انظر : نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 78 ] .
فهذه أبيات قد لا تنبو عن الذّوق ولكنها لا تستقيم على وجه من وجوه العروض .
3ـ الأمن من تداخل البحور
و" قد وقع فيه جماعة من العرب كمرقش ومهلهل وعلقمة بن عبدة وعبيد بن الأبرص وغيرهم " [ البارع : 83 ] .
وقد ذهَبَ الغذّاميُّ إلى أنّ عبيد أخذ في قصيدته بفكرة مزْجِ البحور ، وأنّه قد اجتمع في قصيدته هذه سبعة أبحر ! [ انظر : الصوت القديم الجديد : 81 – 85 ] ، وأنّ قصيدةَ الأسود بن يعفر ( إنّا ذممنا على ما خيّلت ... سعد بن زيد وعمرو من تميمْ ) جاءت على أربعة أوزان ! [ انظر : الصوت القديم الجديد : 86 – 87 ] .
4ـ ضبط الشطرين وعدم انزياح بعض أحدهما إلى الآخر
ومثاله ما في كتاب أهدى سبيل [ ص : 11 ] :
والرزق عن قَدَرٍ لا العجز ينقصه ولا يزيدك فيه حول محتالِ
وحق ( ينقصه ) أن تكون في الشطر الأول .
5ـ سلامة النطق بالشعر وصيانته عن التحريف
وإليك هذه الأمثلة العديدة :
1ـ " وخبرت عن شيخ من مشايخ أهل العلم والرواية وكانت له حلقة في المسجد الجامع بالرصافة أنه أنشد لامرئ القيس :
ألا إنني باك على جبل باك يقود بنا باكٍ ويتبعنا باكٍ ويحدو بنا باكٍ
يجعل الطويل على عشرة أجزاء ، وهذا ما قاله عربيّ ولا أنشده أعجميّ ، فأي مهجنة أقبح على الإنسان من هذه المهجنة ؟ وبكم الخرس أحسن من النطق بمثل هذا ! " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 32 ] .
2ـ " وخبرني بعض من أثق به أنه رأى بخط شيخ من أهل العلم ممن قد لزم المجالس وكتب بيده شيئا كثيرا بيت امرئ القيس :
فقال : حَلَفْتُ لها بالله حلفةً لناموا فما إن من حديث ولا صالِ
فجعل ( فقال ) من البيت ! وأحسب أنّ الكلام كان قبل البيت .. وهذا قبيح جداً " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 35 ] .
3ـ " وخبرني بعض من أثق به أن رجلا من أهل العلم أنشد :
أيها المرء لا تقولنّ شيئا لست تدري ماذا يُعْييك منه
وهذا مكسور لا يخرج ، وإنما هو : ماذا يعيبك منه ، من العيب " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 36 ] .
4ـ " وخبرني من أثق به أنه كان في مجلس إملاء ، فمرّ به هذا البيت :
أمن أم طلحـة طيف ألمْ ونحن بالاجزاع من ذي سلَمْ
وبعده :
وفيها عصيت الألى فنّدوا وكلُّ نصيــــحٍ بها متهمْ
قال : فرأيت بعض من كان في المجلس قد كتب : ( وفيها ) منفردا عن الشعر ، وجعل أول البيت ( عصيت الألى فندوا ) ! ولو كان هذا الرجل في شيء من العروض لم يذهب عليه هذا المقدار " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 37 ] .
6ـ ضبط الألفاظ
فربما احتمل اللفظ غير ما نطق ، فكان العروض هو المحدد للنطق الصحيح ، والضبط الصواب الذي ينبغي أن يصار إليه .
قال السيرافيّ : " ولا أحصي من الأبيات ما وجدته غُفلاً غير مضبوط ولا مشكول ولم يكن لي فيه سماع ، فاستخرجته في العروض " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 35 ] .
" ألا تـرى أنك لو رأيت بيتـاً من الشعر وفيه كلمة من العربيّـة لا تعرفها نحـو ( جَحْمَرِش ) و ( كَنَهْبَل ) وأنت عارف بالعروض ووزنه وأجزائه لم يجـز أن تقـول : ( جَحَمَرِش ) فتفتح الحاء وتسكّن الميم ، ولا ( كَنْهَبْل ) فتسكن النون وتفتح الهاء ؛ لأنّ الوزن يردعك ويمنعك من هذا الخطأ القبيح " . [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 35 ] .
ومن أمثلة هذا الأمر ما جاء في شعر حافظ إبراهيم من قوله :
" حطَمتُ اليراع فلا تعجبي وعفت البيان فلا تعتبي
تجد الفعل حطم ، وقواعد اللغة تجيز نطقه بتشديد الطاء وعدم التشديد ولكن تفعيلة المتقارب تحتم ترك التشديد " في عروض الشعر العربي .. قضايا ومناقشات ، للدكتور محمد عبد المجيد الطويل : 12 ] .
وإليك مثالا آخر ذكره السيرافي ، قال رحمه الله : " تجارى رجلان بحضرتي وتناشدا قول الشاعر :
كأنّ فاها عَبَقُرٌّ باردٌ
فقال أحدهما : عَبَقّر بتشديد القاف ، وقال الآخر : عبقرّ فشدد الراء ، فقطعت البيت فخرج الحرف عَبَقُرٌّ بتشديد الراء ، والبيت من الرجز ، ولم يتزن البيت بتشديد القاف ... والوزن يردعك ويمنعك من الخطأ القبيح ، ويزيل عنك الشك واللبس ، ويرشدك إلى البصيرة واليقين ، ولا تحتاج إلى ملاقاة أحد في معرفة ذلك ، بل تكون أنت المرجوع إليـك ، والحكم فيما يرد عليك " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 35 ] .
7ـ الصيانة من نسبة البيت إلى غير قصيدته
" وخبرني من أثق به عن رجل من جِلّة أهل العلم المتقدّمين فيه … أنه أنشد بيتا لأبي نواس وهو :
جُعلتُ فداكَ إنّ الحبس باسُ وقد أرسلتَ : ليس عليك باسُ
قال : فقلت له : هذا لأبي العتاهية . فقال : أوليس في أول هذاالشعر :
من ذا يكون أبا نوا سِكَ إذْ حبستَ أبا نواسِ ؟
قال : فقلتُ : ليس هذا الوزن من ذلك الوزن ، هذا من الكامل ، وشعر أبي العتاهيةِ من الوافر ، وقافية أحدهما مرفوعة ، وقافية الآخر مخفوضة " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 40 ] .
8ـ التمييز بين الشعر والنثر
فكثيراً ما يخلط غير البصير بالعروض بينهما .
ومن أمثلة ذلك قول السيرافي : " رأيت أيضا بخط رجل قد كتب بيده كتبا كثيرة ، وهو أيضا ممن له نية في الشكل والضبط قد كتب كلاما منثورا ظن أنه شعر متزن ، فأخرجه من الكلام وأفرده كما يفعل بالبيت من الشعر ليفصل بينه وبين الكلام ! وهو كلام ليحيى بن يعمر قاله لرجل نازعته امرأة عنده فقال له :
أإن سألتك ثمن شَكْرها وشَبْرها أنشأت تطلها وتضهلها ؟
... فظن هذا الرجل أن هذا الكلام بيت من الشعر فكتبه في كتابه على هذه الصورة التي كتبناها " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 36 ] .
9ـ إعانة الناقد على معرفة مبلغ اقتدار الشاعر
" إن الشاعر الكبير يغلب الوزن ولا يغلبه الوزن ، تتغير عنده وجوه القول ولا تتغير قدرته على القول " [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي ، مقدّمة المحقـق : 4 ] .
10ـ التأكد من أنّ القرآن الكريم ، والحديث النبوي الشريف ليسا بشعر
أي معرفة دراسة لا معرفة تقليد .
11ـ معرفة ما يرد في التراث من مصطلحات عروضية :
فالتراث العربيّ مليء بهذه المصطلحات ، ولا سبيل إلى فهمها ، وإدراك المراد إلا بدرس العروض وتدبّره وتفهمه . [ انظر في 9 ، 10 : منهج المعهد العلمي في العروض والقافية : 7-8 ] .
ونحتاج هنا أن نشير إلى شبهات المعترضين على علم العروض والداعين لإلغائه ، وأبرز هذه الشبهات :
1ـ زهد كثير من الأئمة فيه كثعلب وقدح بعضهم فيه كالجاحظ والنظام
فقد كان ثعلبٌ لا يحسن العروضَ .
وكان الجاحظ يقولُ : إن العروض علمٌ مستبرد لا فائدة له ولا محصول .
وذُكر أنّ الأصمعيّ ذهب إلى الخليل يطلب العروض ، ومكث فترة فلم يفلح ، حتى يئس الخليل من فلاحه ، فقال له يوما : قطّع هذا البيت :
إذا لم تستطع شيئا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ
فذهب الأصمعيّ ولم يرجع ، وعجب الخليل من فطنته .
والجواب أنه " لو ذهب الناس حتى يزهدوا في العلوم لأن أحمد بن يحيى لم يكن يحسنها ولا ينظر فيها لترك الناس علما كثيرا " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 29 ] .
" وغفر الله للجاحظ تصريحه بأن العروض علم مستبرد لا فائدة له ولا محصول ، إنها جَمْحة أفلتت من زَكَنِهِ وإن حملت شيئا من روح الفكاهة فيه ، لا ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد الخالص ولا سيما أن للجاحظ نفسه قولا آخر يعترف فيه بوظيفة العروض . جمحةٌ فيها من التهكم ما يشبه تهكُّمَ أستاذه النظّام إذ يقول : إنّ دوائر الخليلِ لايحتاجُ إليـها غيرُهُ ، وربما كان كلا القولين مردُّهُ إلى افتراق المذاهب وما يوقعه في النفس من هوىً ، فالنظام والجاحظ من أهل الاعتزال ، والخليلُ من أهل السنّة " [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي ، مقدّمة المحقق : 5 ] .
كما أنّ إخفاق الأصمعيِّ في تعلّم العروض لا يعني أن العروض " مقدور علمُهُ لفئةٍ قليلةٍ ، فما أكثر من تتهيأ لهم القدرة العروضيّة ، وإن لم يكن لهم ذكاءُ الأصمعيّ وعلمه وأدبه ؛ لأنها قدرة كأيّ قدرة غيرها ، لا يلزم أن يؤتاها عظيم الذكاء فحسب " [الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي ، مقدّمة المحقق : 3 ] .
وعلى كل " فلا يمنعك من طلب العلم زهد من زهد فيه ، ولا جهل من رغب عنه وطعن فيه ، وقد قال علي بن أبي طالب : قيمة كل امرئ ما يحسن " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 42 ] .
والحقّ أن البليّة ليست في تهوين بعض الناس من شأن العروض مهما بلغوا من العلم والفضل ، " وإنما الضير كلّ الضير أن تكون الاستهانة سمة العصر ، وهذا هو البلاء الحاضر " . [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي ، مقدّمة المحقق : 6 ] .
2ـ لا يراد العروض إلا لقول الشعر ، فإن استقام الطبع استغني عنه
" وليس الأمر كذلك لأن صاحب العروض وإن قال الشعر وعلم كيف وضع الكلام ورصفه فلعمري إنه قد سلك طريقا يعرفه ووضع الكلام موضعه ، ولكن إنما يراد بالعروض معرفة الأوزان أهي صحيحة أم مكسورة ؟ ومن أي صنف هي ؟ " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 35 ] .
ومعنى هذا أن مستقيم الطبع إذا تعلم العروض كان بصيرا بمواضع الكلم ، وكان كالبناء الماهر الذي يبني وفق خريطة مرسومة أمامه ، فيكون ذلك أعون على إتقانه وإبداعه وتجويده .
ثم إن العروض لا يراد لقول الشعر فحسب ، بل سبقت الإشارة إلى كثير من منافعه وثماره .
3ـ ملكة السماع تغني عن العروض
وهذه شبهة متفرعة على سابقتها ، والجواب أن ثمرة العروض تظهر حين اختلاف صاحبي طبع حول نص ما ، " فإذا استمع معك غيرك فقال لما تزعم أنه شعر ليس بشعر ، ولما تزعم أنه ليس بشعر عندك هو شعر فما حجتك ؟ إن احتججت عليه بأنك تسمع قال : أنا أيضا أسمع ، وأما من زعم أنه يأخذ بالترنم والغناء فإن الترنم يكسر الشعر ، وذلك لأنه لا يقدر على المد إلا في حروف المد ، وليس في كل موضع يمد فيه من البيت حرف مد ، فإذا لم يجد حرف مد زاد حرف مد من عنده ، ولا بد من ذلك ، فالزيادة في الحروف كسر " [ الأخفش : 132 ] .
4ـ لم يحط العروض بالأبنية كلها فلم نحصر نفسنا فيه ؟
من قال ذلك فيقال له : " من أين صحّ عندك ذلك ؟ أمن جهة ِ روايةٍ وقعت إليك ؟ أم ظننته ؟ فليس بالظنّ يبطل اليقين ، ولا بالشّكوك تفسد البراهينُ . وإن كان ذلك من جهة الروايةِ فما أحسبك تعْشُرُ الخليلَ في الرواية ، ولا تتقدّمه في الدّراية … وإذا تُتُبٍّعتِ الأشعار التي نقلتْها الرّواةُ عن العرب الفصحاء لم تخرج عن الأوزان التي ذكرها الخليل ، ويشهد بعضها لبعضٍ . فكيف يمكن أن تكون الأوزانُ أكثر من هذه وقد حُدّتْ وجُمعتْ ، وأُخذ فيها بالوثيقة ؟ " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 56 ]
وحتى لو سلّمنا باحتمال فوات أبنيةٍ لم يضبطها العروض ، فإنّ منطق العلم يقتضي ألا نعتمد ونبين إلا ما عرفناه وبلغنا ، ولا تصحّ الإحالة على مجهول . فإن قال قائل : " ألست لا تدري لعل أبنية كثيرة لم تسمع بها ؟ قلت : بلى ، غير أني لا أبيّـن إلا ما سمعت ، كما أنه لو قلت : مررت بأبوك ، غيَّرْتُهُ ، وإن كنتُ لا أدري لعل هذه لغة للعرب . وكذلك يعتبر ذلك البناء الذي لم نسمع به " [ الأخفش : 127 ] .
5ـ بدأ أول شاعر ببحر أو اثنين ثم زاد من بعده فلم لا نزيد نحن ؟
" قلت : أما من بنى من العرب الذين سجيتهم العربية بناء فهو جائز ، وإن لم يكن سمعه قبل ذلك ، كما أني إذا سمعت منه لغة وهو فصيح أخذت بها ، فإذا كان ذلك البناء ممن ليست سجيته العربية لم آخذ عنه ، كما لا آخذ عنه اللغة " [ الأخفش : 128 ] .
عاشرا : المسائل
1ـ المقدمات : المبادئ العشرة ، حروف التقطيع ، الأسباب والأوتاد ، التفاعيل ، المتحرك والساكن ، المشدد والمخفف .
2ـ الكتابة العروضية .
3ـ الزحافات والعلل .
4ـ الدوائر العروضية وما يخرج منها من البحور .
5ـ الضرائر الشعرية .
6ـ القافية : تعريفها ، أنواعها ، حروفها ، عيوبها .
المقدمة الثالثة : التدرّج العقليّ في وضع العروض
وغرض هذه المقدمة محاولة استقراء خطوات عمل العقل الخليلي وهو يضع العروض ، وما يذكر هنا مجرد تصور يقصد منه بيان المنطقية والمنهجية والتدرج في هذا العلم . بإمكاننا تخيل عدة خطوات لهذا العمل العقلي المتميز ، جماعُها في ثلاث مراحلَ : الشعور والملاحظة ، ثم التفسير ، ثم الوصف .
المرحلة الأولى : الشعور والملاحظة
1ـ لاحَظَ الخليل من خلال روايته الواسعة تبايُنَ أنغام الشعر العربيّ ، واختلاف موسيقاه ، فمعلقة امرئ القيس مثلا شديدة المباينة في مبناها الموسيقي لمعلقة عمرو بن كلثوم ، وبين قافيّة تأبط شرا :
ياعِيْدُ مالَكَ مِنْ شوقٍ وإيراقِ ومرِّ طيفٍ على الأهوال طرّاقِ
ورائية التهامي في رثاء ولده :
حُكْمُ المنيّة في البريّة ِ جارِ ماهذه الدنيا بدار قرارِ
بين القصدتين بَوْنٌ موسيقيٌّ شاسع .
2ـ إدراك هذه الفروق الموسيقية كانَ مجرد حَدْسٍ داخليّ يشعر به أصحاب الملكات الصحيحة ، والطباع السليمة .
المرحلة الثانية : التفسير
3ـ تأمَّلَ الخليلُ فيما يوجبُ اختلاف الأنغام الشعريّة ، فلاحظ أن ترتيبَ السواكن والمتحركات هو الذي يتحكم في نغم البيت وموسيقاه ، بمعنى أن كل بيتين لا يتفقان موسيقيّاً هما بالضرورة مختلفان في الترتيب الحركيّ السكونيّ ، وكل بيتين يتفقان موسيقيا هما بالضرورة متفقان أو مشتبهان على الأقل في هذا الترتيب .
فمثلا :
يتفق البيتان التاليان في نغمهما الشعريّ :
قَدْ يَهُوْنُ الْعُمْرُ إِلاّ سَاعَــةً وَتَهُـوْنُ الأَرْضُ إِلاّ مَوْضِــعَا
لا تَظُنُّوْا لِيْ إِلَيْكُمْ رَجْعَــةً كَشَفَ التّجْرِيْبُ عَنْ عَيْنِيْ العمى
وعند تأمُّلِ ترتيب الحركات والسكنات في البيتين نلاحظ أنه فيهما على النحو التالي :
الشطر الأول : حركة ، سكون ، حركة ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، حركة ، سكون.
الشطر الثاني : حركة ، حركة ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، سكون ، حركة ، حركة ، سكون.
ولو حاولت أن تقارن بين الترتيب الحركي السكونيّ لمطلع معلقة امرئ القيس والتركيب الحركي السكوني لمطلع معلقة طرفة لوجدت بونا شاسعا ، وهذا البون هو الذي أوجب اختلافهما في النغم الموسيقيّ .
المرحلة الثالثة : الوصف
4ـ بعد أن ( فسّر ) الخليل موجبَ اختلاف الأنغام وضع نفسه أمام تحدّ علميّ جديد ، وهو تحدّي ( الوصف ) المتّسم بالوضوح والاطّرادِ وكأنّه سأل نفسه : هل أستطيع تحويل هذا الإدراك الحدسي إلى إدراك منضبط بقوانين وأصول ؟ أو هل أستطيع اصطياد النغم الشعريّ المسموع ثم وَصْفَهُ بطريقة حسية مشاهدة ؟ وبعبارة أوضح : هل يمكن تحويل المسموع ( النغم الشعري وموسيقى البيت ) إلى مشاهد ؟ بحيث تشاهد العين صورة للنغم الذي تسمعه الأذن ؟ وتبصر العين كل تغيير موسيقي تتنبه له الأذن ؟ وهل من الممكنِ ابتداعُ طريقةٍ لتدوين النغم كما ابتدعَ الأوائل الكتابة لتدوين الملفوظ من الأقوال ؟
5ـ لاحظ الخليل ابتداءً أن الكتابة الإملائية المعتادة تحتوي أحرفا تكتب ولا تنطق ، وتغفل كتابة أحرف أخرى منطوقة ، ولاحظ أن ما يؤثر في الترتيب الحركيّ السكونيّ إنما هو الأحرف المنطوقة ـ سواء كتبت أم لا ـ دون الأحرف التي تكتب ولا تنطق .
6ـ من خلال ماسبق وجد الخليل نفسه قادراً على أن يقدّم وصفا صوتياً مكتوباً لنغم البيت من خلال أمرين اثنين :
أ. كتابة البيت بنظام كتابيّ جديد يعتمد على كتابة المنطوق فحسب .
ب. وصف التعاقب الحركيّ السكونيّ لأحرف البيت . وللاختصار رمز للمتحرك بـ ( / ) وللساكن بـ ( 5 ) .
فيمكن إذنْ أن يقال : إنّ موسيقى قول أبي الطيب :
فَلا تَحْسَبَنَّ الْمَجْدَ زِقّاً وَقَيْنَةً فَمَا الْمَجْدُ إلا السّيْفُ والْوَثْبَةُ البِكْرُ
هي على النحو التالي :
فلا تَحْسَبنْنَ لْمجْدَ زِقْقَاً وقينتنْ
//5 /5//5/ 5/5/ /5/5 //5//5
فَمَ لْمجْدُ إِلْلَسْسَيْفُ وَلْوَثْبَةُ لْبِكْرُو
// 5/5/ /5/5/5/ /5/5// 5/5/5
لقد نجح الخليل إذنْ في تصوير موسيقى البيت ، أو في تحويل المسموع إلى مرئيّ ، ولكن المشكلة الآن هي صعوبة وصف الأبيات بهذه الطريقة لكثرة المتحركات والسواكن في كل بيت .
7ـ حاول الخليل تسهيل عملية الوصف من خلال إنشاء تكوينات ( تجمّعات ) من الحركات والسكنات أَطْلَقَ على كل تكوين أو تجمّع منها اسماً ، وإليك أهم هذه التكوينات :
/5 : سبب خفيف .
// : سبب ثقيل .
//5 : وتد مجموع .
/5/ : وتد مفروق .
وبالتالي صار بالإمكان أن توصف موسيقى البيت السابق على النحو التالي :
الشطر الأول :
فلا تَحـْسَبنْنَ لْمجْدَ زِقـْقَاً وقيــنتنْ
//5 /5 //5 / 5 /5 / /5 /5 //5 //5
وباالمثل يقال : إن الشطر الثاني يتألف من :
وتد مجموع + سبب خفيف + وتد مجموع + سبب خفيف + سبب خفيف + وتد مجموع + سبب خفيف + وتد مجموع + سبب خفيف + سبب خفيف .
8ـ برغم التسهيل الذي أحدثته الخطوة السابقة إلا أن الأمر مازال طويلا متعباً ، فحاول الخليل أن يجمع الأسباب والأوتاد في تكوينات أكبر ، وأن يعبر عنها بطريقة مختصرة ، فعمد إلى الأسباب فأدارها حول الأوتاد مقدما ومؤخراً ، محاولاً بذلك تكويـن ( تجمّعات ) أكبر من الأسبـاب والأوتـاد ، فاستخرج من ذلك عشر صـور [ وسنذكر فيما بعد كيف اهتدى إلى هذه العشرة تحديداً ] هي :
( //5+/5 ) ، ( //5+/5+/5 ) ، ( //5+//+/5 ) ، ( /5/+/5+/5 ) ،
( /5+//5) ، ( /5+/5+//5 ) ، ( //+/5+//5 ) ، ( /5+/5+/5/) ،
( /5+//5+/5) ، ( /5+/5/+/5 ) .
هكذا كوّن الخليل تجمعات/تكوينات ـ وتسمى في العروض أجزاءً ـ أكبر من السابقة وبقي عليه أن يعبر عن هذه التكوينات بطريقة سهلة مختصرة .
9ـ ابتكر الخليل فكرة الميزان العروضي ، وهي شبيهة إلى حد ما بالميزان الصرفي ، فقرّر أن يعبر عن هذه التكوينات باستخدام كلمات شبيهة بالموازين الصرفية تتألف من حروف ( لمعت سيوفنا ) . فعبر عن التشكيلات السابقة كما يلي :
( //5+/5 ) ، ( //5+/5+/5 ) ، ( //5+//+/5 ) ، ( /5/+/5+/5 ) ،
فعولن مفاعيلن مفاعَلَتُنْ فاعِ لاتن
( /5+//5) ، ( /5+/5+//5 ) ، ( //+/5+//5 ) ، ( /5+/5+/5/) ،
فاعلن مستفعلن متفاعلن مفعولاتُ
( /5+//5+/5) ، ( /5+/5/+/5 ) .
فاعلاتن مستفع لن
سمّى الخليلُ كلّ جزءٍ من هذه الأجزاء ( تفعيلة ) ؛ لأنّه عبر عنها بالفـاء والعين واللام( ) .
وبهذا تكون التفعيلة في الحقيقة تعبيراً مختصراً عن ترتيب حركيّ سكونيّ ليس إلا . أو هي : " حوامل للحركات والسكنات المصوّرة في الموزون المقابل ، فالمقصود بها : حكاية الإيقاع عن طريق صيغ صرفيّة " [ العروض والقافية ، د.عبد الله أمين : 21 ] ، والمعتبر في هذا السياق " التوافقُ في جنس الحركة لا في عينها من كونها مثلا كسرة أو فتحة " [ نهاية الراغب في شرح عروض الحاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 85 ]
قال ابن عبد ربه" من هذه الأسباب والأوتاد ضبط الخليل عروضه بما سمّاه الأجزاء ، واتخَذَ لفظ ( فَعَلَ ) رمزاً صرَّفَ منه كلماتٍ موزونةً تدلُّ مجتمعة على موقع الأوتاد من الأسباب ، وموقع الأسباب من الأوتاد " [ نمط : 95 ] .
فأنت ترى تصريح الرجل بأن الأجزاء ( التفاعيل ) إنما هي دلالة على موقع الأسباب من الأوتاد والعكس ، أي أنها دلالة ـ كما قررتُ ـ على ترتيب حركيّ سكونيّ .
وبفضل الأجزاء ( التفعيلات ) أصبح بالإمكان التعبير عن موسيقى بيت أبي الطيب على النحو التالي :
فلاتحْ سبنْنَلْمجْ دَزِقْقَن وقينتنْ
//5/5 //5/5/5 //5/5 //5//5
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن
فَمَلْمجْ دُإِلْلَسْسَيْ فولْوَثْ بَةُلْبِكْرُو
//5/5 //5/5/5 //5/5 //5/5/5
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلين
10ـ استطاع الخليل بهذه الخطوة أن يتوصل إلى آلية محكمة بارعة مختصرة تعبر لنا عن موسيقى البيت من خلال الكشف عن ترتيبه الحركيّ السكونيّ ، ومن خلال هذه الآلية وصف لنا ما انتهى إليه من أنغام الشعر العربي ، وسمى كل نغم رئيس بحراً ، فاتّسقَ له خمسة عشر بحراً .
11ـ ولما كانت بعض التغييرات اليسيرة في الترتيب لا تخلّ بنغم البيت ، فقد اضطر الخليل إلى حصر هذه التغييرات وضبطها ووضع أسماء محددة لها ، ليقدم لنا مع كل بحرٍ ما يجوز فيه من تغييرات وسمى هذه التغييرات الزحافات والعلل .
وهكذا جعل الخليل أمامنا وصفا دقيقا مرئيا لجمهرة الشعر العربيّ ، فكل كلام وافق ما وصفه لنا في ترتيب حركاته وسكناته فهو شعر ، وما خالفه فليس بشعر ، ولذلك قال ابن جني : " فما وافق أشعار العرب في عدة الحروف الساكن والمتحرك سمي شعراً ، وما خالفه فيما ذكرناه فليس شعرا " [ ابن جني : 59 ] .
ومن هنا ندرك بوضوح تام أن العروض ليس إلا تعاملا مع الترتيب الحركي السكوني للكلام ، وصفا له ، وبناء عليه .
ويمكن أن نجدَ خلاصةً لهذا الشرح المطوّل في عبارات وجيزة للإمام الأخفش ، قال رحمه الله : " أما وضعُ العروضِ فإنّهم جمعوا كلَّ ما وصلَ إليهم من أبنيةِ العربِ ، فعرفوا عدد حروفها ، ساكنِها ومتحرِّكِها ، وهذا البناء المؤلّف من الكلام هو الذي تسمّيه العربُ شعراً ، فما وافق هذا البناءَ الذي سمّتْهُ العربُ شعراً في عدد حروفِهِ ساكنةً ومتحرّكةً فهو شعر ، وما خالفه وإن أشبهه في بعض الأشياء فليس اسمهُ شعراً " [ الأخفش : 126 ]
المقدمة الثالثة : التمييز بين المتحرك والساكن
قررنا من قبل أن العروض هو تعامل مع المتحرك والساكن ، " والحروف لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة " [ الأخفش : 111 ] ، ولذلك قال السيرافي : " اعلم أن معرفة الساكن من المتحرك هو أصل علم العروض البتة ، ومن لم يكن في طباعه معرفة ذلك فليس يصل إلى علم العروض البتة " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 47 ] .
وقال غيره : " اعلم أن أول ما ينبغي لصاحب العروض أن يبتدئ به معرفة الساكن والمتحرك فإن الكلام كله لا يعدو أن يكون ساكنا أو متحركا " .
وإليك ثلاثاً من الطرق التي يفرق بها بين المتحرك والساكن :
1ـ " إذا أردت أن تعرف الحرف الساكن من الحرف المتحرك عمدت إلى الحرف الذي الشك فيه هل هو ساكن أم متحرك فامتحنته بالحركات الثلاث ، و هي الفتحة والضمة والكسرة ، فإن جرت الحركات الثلاث فيه فأزالته عن بنيته وصورته في اللفظ فاعلم أن ذلك الحرف ساكن ، وإن لم تغيره ... فهو لا محالة متحرك " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 47 ].
ويمكن أن يقال بعبارة أخرى : " الساكن ما ساغ فيه ثلاث حركات .. والمتحرك الذي لا يسوغ فيه إلا حركتان " [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريـزي : 19 ] .
2ـ " إنما يعرف الساكن من المتحرك بأن تنقصه مما هو عليه ، فإن وصلت إلى نقصه فليس بساكن ، وإن لم تصل إلى نقصه فهو ساكن " [ الأخفش : 112 ] .
3ـ يعرف الساكن بـ" أن تروم فيه الحركة ، فإن قدرت على زيادة تحريك عرفت أنه قد كان ساكنا ، وأنه لو كان متحركا لم تقدر على أن تدخل فيه حركة أخرى ... وإنما يعرف المتحرك بأن تروم فيه السكون ، فإن وصلت إلى ذلك فهو متحرك " [ الأخفش : 112 ] .
ومن القوانين المهمة فيما يتعلق بالمتحرك والساكن :
1ـ " الألف تكون ساكنة أبداً " [ الأخفش : 113 ] . [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 76 ] .
2ـ " لا يتوالى في الشعر أكثر من أربعة أحرف متحركات " [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي : 18 ] . " أما في الكلام فقد تتوالى ستّ حركات وأكثر إذا كان ذلك في كلمتين ، مثل : ذهب وسكن وجلس حسن " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 48 ] .
" وقد يكون فيه أربعة متحركة ولكن قليل ، لأن أربع متحركات لا يجتمعن في كلمة واحدة في غير الشعر إلا في محذوف منه ساكن نحو عُلَبِط " [ الأخفش :125 ] .
3ـ " واعلم أنه لايجتمع في حشو الشعر ساكنان ليس بينهما متحرك ... وقد يجمع بينهما في بعض القوافي ، ولا يكون الأول في ذلك إلا حرف لين .. وقد يجتمع في الوقف الساكنان ... وقد يجمع بين الساكنين في الكلام في غير الوقف إذا كان الأول من حروف المد واللين وكان الثاني مدغما نحو ألف دابة ... وقد يجمعون بين ساكنين وليس الآخر منهما مدغما نحو : عاجْ عاجْ " [ الأخفش : 125 ، 121 ] .
4ـ " أحسن ما يبنى عليه الشعر أن يبنى على متحركين بينهما ساكن ، أو بمتحركين بين ساكنين ، فهذا أعد الشعر وأحسنه ، فإذا كثرت سواكنه ومتحركاته على غير هذه الصفة قبح ، وكثرة المتحركات أحسن من كثرة السواكن " [ الأخفش : 125 ] .
5ـ " اعلم أنّه لا يبتدأ بساكنٍ ؛ لأنه يلطُفُ ويخفى ، فيُخْفَضُ اللسان فيه . ولا يُبتدأ بالتثقيل ؛ لأنّ الثقيل أوّلُهُ ساكن ، فلا يُبدأ إلا بحَرْفٍ خفيفٍ متحرّك " [ الأخفش : 117 ] . وليس في وسع أحد البتّة أن يبتدئ كلامه بساكن ، " وقد ادّعى بعض من ينظر في العروض أنّ في طاقته أن يبتدئ بساكنٍ ، وذلك مثلُ قولهم بالفارسية : دْرَم إذا عنى الدرهم ، وليس هذا مما يلتفت إليه ، ولا مما يشتغل به ، بل حقيق أن يضحك منه ومن قائله " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 50 ] .
المقدمة الرابعة : التمييز بين المشدد والمخفف
" اعلم أن الخفيف يكون ساكنا .. ومتحركا " [ الأخفش : 113 ] .
كثيرا ما يقع الخلط بين الحرف الساكن والحرف المشدد ، وثمت طريقتان للتفريق بينهما :
1ـ أن تروم التثقيل ( أي التشديد ) في الحرف فإن ساغ ذلك فيه فهو خفيف ، وإن لم يسغ فيه فهو ثقيل [ وانظر الأخفش : 113 ] .
2ـ المشدد ما وقفت فيه على حرف وابتدأت بنفس الحرف ، والخفيف ما وقفت فيه على حرف وابتدأت بغيره .
ومن القوانين المتعلق بالتشديد :
1ـ " وكلّ حرف مشدد يعد حرفين في التقطيع " [ الكافي في العروض والقوافي ، للخطيب التبريزي : 19 ] .
2 ـ جميع الحروف يمكن أن تشدد إلا نون التوكيد الخفيفة والألف . [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 76 ]
المقدمة الخامسة : كيفية استنباط الخليل للتفاعيل العشرة
هذا حديث شديد الارتباط بالمقدمة الثانية ، ولكننا أفردناه وأخرناه لاحتياجه إلى فضل تأمل ، وما سيذكر هنا هو مجرّد استنباط ، وإلا فإننا لا برهان بين يدينا بأن الخليل كان يعمل فكره على هذا الوجه ، غير أن الأستاذ محمود شاكر ـ وهو الذي فتق القول في هذه المسألة ـ يقول : " وأرجح الآن ترجيحا يشبه اليقين أن هذا الذي ذكرته آنفاً بهذا الترتيب ، وبهذا الرسم هو الذي كان في كتاب الخليل ، ولكنه ساقه سياقة واحدة بغير بيان لموقع الأوتاد من الأسباب طلبا للاختصار ، وهذا شأن كل من يضع أصولاً جديدة لعلم لم يسبق إليه " [ نمط : 93 ] .
ذكرنا سابقاً أن التفاعيل عبارة عن تأليف بين الأسباب والأوتاد ، ونريد هنا أن نستقصي كافة الاحتمالات العقلية لهذا التأليف وننظر لم أبقى الخليل ما أبقى ؟ ولم رفض ما رفض ؟ ولم اقتصر على عشر صور فقط ؟
قال السيرافي " اعلم أن بناء الشعر كله على السبب والوتد " [ كتاب صنعة الشعر ، المنسوب لأبي سعيد السيرافي : 94 ] .
لدينا : وتد مجموع ، ووتد مفروق ، وسبب خفيف وسبب ثقيل .
ولدينا في الترتيب ثلاثة احتمالات : تقدم الوتد على سبب أو سببين ، تأخر الوتد عن سببين ، توسط الوتد بين سببين( ) .
الاحتمال الأول : تقدم الوتد على سبب أو سببين
وله عشر صور ، لا يسلم لنا منها إلا أربعة :
1ـ وتد مجموع + سببا خفيفا ( //5+/5 )
2ـ وتد مجموع + سببا ثقيلا [ يخرج لانتهائه بمتحرك ] .
3ـ وتد مجموع + سببين خفيفين ( //5+/5+/5 )
4ـ وتد مجموع + سببين ثقيلين [ يخرج لتتابع أربع حركات وانتهائه بمتحرّك ]
5ـ وتد مجموع + سببا ثقيلا + سببا خفيفا ( //5+//+/5 )
6ـ وتد مفروق + سببا خفيفا [ يخرج ]
7ـ وتد مفروق + سببا ثقيلا [ يخرج لانتهائه بمتحرك ]
8ـ وتد مفروق + سببين خفيفين ( /5/+/5+/5 )
9ـ وتد مفروق + سببين ثقيلين [ يخرج لتتابع خمس حركات وهو لا يكاد ينطق ]
10ـ وتد مفروق + سببا ثقيلا + سببا خفيفا [ يخرج لتتابع أربع متحركات ]
إذن سلمت لنا كما ذكرنا أربع صور هي الأصول الأربعة ، وكلها تبدأ بالأوتاد ، وهي :
فعولن = ( //5+/5 )
مفاعيلن = ( //5+/5+/5 )
مفاعلَتن = ( //5+//+/5 )
فاع لاتن = ( /5/+/5+/5 )
الاحتمال الثاني : تأخر الوتد عن سببين
والمعتمد هنا على الصور الأربعة التي سلمت لنا في المرة الأولى . فنأخذ الأسباب مجتمعة فنقدمها بترتيبها على الوتد .
وبالتالي سنجد أن كل تفعيلة من الأصول الأربعة تتفرع عنها تفعيلة أخرى على النحو التالي :
فعولن = ( //5+/5 ) ينشأ عنها فاعلن = ( /5+//5 )
مفاعيلن = ( //5+/5+/5 ) ينشأ عنها مستفعلن = ( /5+/5+//5 )
مفاعلتن = ( //5+//+/5 ) ينشأ عنها متفاعلن = ( //+/5+//5 )
فاع لاتن = ( /5/+/5+/5 ) ينشأ عنها مفعولاتُ + ( /5+/5+/5/ )
الاحتمال الثالث : توسط الوتد بين سببين
ومحلّه أيضا في الأصول الأربعة .
فنأخذ آخر السببين أو أحدهما فنقدمه على الوتد .
مفاعيلن = ( //5+/5+/5 ) ينشأ عنها فاعلاتن = ( /5+//5+/5 ) .
مفاعلتن = ( //5+//+/5 ) [ لا ينشأ عنها شيء لتتابع أربع متحركات عند تقديم السبب الأول ، وانتهاء الجزء بحرف متحرك عند تقديم السبب الثاني ] .
فاع لاتن = ( /5/+/5+/5 ) ينشأ عنها مستفع لن = ( /5+/5/+/5 ).
أصبح لدينا ست صور فروع : فاعلن ، مستفعلن ، متفاعلن ، مفعولاتُ ، فاعلاتن ، مستفع لن .
وبهذا يصبح مجموع الأجزاء عشرة أجزاء ، أربعة أصول ، وستة فروع [ نمط 95ـ94 ] .
[ انظر في جوانب من هذه الفكرة ما جاء في نهاية الراغب في شرح عروض الحـاجب ، لجمال الدين الأسنوي : 87 ففيه إشارة واضحة ] .
المقدمة السادسة : أبرز المصطلحات الأساسية لهذا العلم
المجموعة الأولى : ما يتعلق بالترتيب الحركيّ السكونيّ
1ـ السبب الخفيف : المقطع المؤلف من متحرك فساكن . ( /5 ) .
2ـ السبب الثقيل : المقطع المؤلف من متحركين . ( // ) .
3ـ الوتد المجموع : المقطع المؤلف من متحركين فساكن . ( //5 )
4ـ الوتد المفروق : المقطع المؤلف من متحركين بينهما ساكن . ( /5/ ) .
5ـ الفاصلة الصغرى : المقطع المؤلف من ثلاث متحركات فساكن . ( ///5 ) .
6ـ الفاصلة الكبرى : المقطع المؤلف من أربع متحركات فساكن . ( ////5 ) .
وقد اجتمعت المقاطع الستة في قولك : لم/أر/على /ظَهْرِ/جَبَلٍ/سمكةً .
و" إنما قيل للسبب سبب لأنه يضطرب فيثبت مرة ويسقط أخرى ، وإنما قيل للوتد وتد لأنه يثبت فلا يزول " [ العقد الفريد 6/271 ] .
المجموعة الثانية : ما يتعلق بأجزاء البيت الشعري
1ـ الشطر : نصف البيت الشعري ، ويسمى مصراعا ، وقسيما .
2ـ الصدر : الشطر الأول من البيت .
3ـ العجُز : الشطر الثاني من البيت .
4ـ العروض : آخر تفعيلة في الشطر الأول .
5ـ الضرب : آخر تفعيلة في الشطر الثاني .
6ـ الحشو : ما عدا العروض والضرب من التفعيلات .
المجموعة الثالثة : ألقاب الأبيات من حيث عددها
1ـ اليتيم : البيت المفرد .
2ـ النتفة : البيتان اللذان لا ثالث لهما .
3ـ القطعة : ما زاد على بيتين إلى ستة .
4ـ القصيدة : ما جاز سبعة أبيات .
المجموعة الرابعة : ألقاب الأبيات من حيث عدد التفعيلات
1ـ التام : البيت الذي استوفى جميع تفعيلاته .
2ـ المجزوء : البيت الذي أسقط منه جزآن ، واحد من آخر صدره والثاني من آخر عجزه .
3ـ المشطور : البيت الذي ذهب نصف عدد تفعيلاته ، أو هو الذي ذهب شطره .
4ـ المنهوك : البيت الذي ذهب ثلثاه وبقي ثلثه .