استوحيت هذا المقال من برنامج تلفازي إماراتي مصوّر في اليابان و من حادث أليم وقع أخيرا في معهدنا ببرج السدرية بضواحي تونس الجنوبية. يصوّر هذا البرنامج دخول التلاميذ صباحا إلى مدرسة ابتدائية يابانية. يكلّف المدير قيّما لاستقبال التلاميذ و مساعدتهم على شق الطريق, يمسك القيم علما مكتوب عليه عبارة "مدرسة" و يوقف السيارات حتى يمرّ التلاميذ بأمان. يخرج مدير المدرسة لاستقبال تلامذته و هو يحمل شارة حمراء حتى يعرّف بنفسه. يصطفّ المعلمون في باب المدرسة ليستقبلوا تلامذتهم بالبسمة و الانحناءة اللطيفة المشهورة عند اليابانيين. يلتحق التلاميذ بقاعاتهم عند رن الجرس, الجرس تنبعث منه موسيقى مريحة و ليست مرعبة كما هو الحال عندنا. عندما يقوم التلميذ الياباني من كرسيه ليخرج إلى السبورة, يرجع كرسيه إلى مكانه حفاظا على نظام القاعة. لكل تلميذ في ساحة المدرسة أو مداخلها نبتة شخصية يرعاها طوال سنين دراسته.
أما الحادث الأليم الذي أثر في أيما تأثير فيتمثل في موت تلميذي النجيب و المتفوق "أشرف ممّو" بعد نزيف داخلي إثر حادث قطار مجاني و سخيف في محطة القطار ببرج السدرية قرب المعهد و إثر خروجه عند انتهاء الدروس في نصف النهار.
ما لفت انتباهي في هذا البرنامج هو السلوك الحضاري الياباني من قبل المدير و المعلمين و التلاميذ. لماذا لا نفعل مثلهم إذا صح مفهوم "لا حضارة تفوق حضارة أخرى"؟
نستطيع أن نفعل مثلهم و ربما أحسن منهم لو فعّلنا قيمنا الحضارية و لم نحنّطها و نجمّدها و نمجّدها في النصوص "فدخل اللصوص" كما قال الشاعر الفيلسوف الفلسطيني و العالمي محمود درويش.
اقترحت منذ سنوات على المديرين المتعاقبين على معهدنا إجراء حضاري بسيط قد يساهم في نظافة القاعات و يريح عمّال النظافة و يحافظ على الأثاث من التلف و الكسر. يتلخّص هذا الاقتراح البسيط و سهل التنفيذ و غير المكلف في الآتي: يحمل كل مدرّس مفتاحا "عموميّا" [ passe partout ] يفتح به قاعته عند الدخول و يغلقها عند الخروج. أنا أعمل بهذا الإجراء منذ سنوات.
لو غيرنا موسيقى جرسنا المدرسي لتحسّن ذوقنا و لتهذّبت مشاعرنا و لنقص عنفنا.
لو اقتصرت حصة الدرس على 45 دقيقة و خصّصنا 15 دقيقة للراحة بين الحصص لما سئم التلميذ و لارتفعت قدرته على الاستيعاب و تحسّن أداء المدرس و لم يكلّ و لما تعنف السجين على سجانه أعني التلميذ على استاذه.
لو وافقت نقابتنا الموقرة على انتخاب ّمجلس بيداغوجي", حتى بصيغته الاستشارية, لما تفرّد المدير بكل القرارات الإجرائية التي تهم المؤسسة.
لو أرجعت الوزارة خطة العامل المكلف بالصيانة [ factotum] مثل تعويض الزجاج المهشم أو إصلاح الأقفال المعطبة لما اشتكى الأساتذة من مجاري الهواء في الشتاء.
لو قنّنت الوزارة مهمّة المدير و مهمّة المرشد التربوي لما تخاصما فيما بينهما على من يحتكر السلطة داخل المعهد.
لو التحق كل مدرّس بقاعته عند رن الجرس لما بقي التلاميذ ينتظرونه في هرج و مرج.
لو اعتذر المدرّس المخطئ في حق التلميذ بدل أن يكتب فيه تقريرا مغرضا لتعلّم التلميذ السلوك الحضاري من أستاذه.
لو رجعت كلمة "أعتذر سيّدي" إلى أفواه تلاميذنا لاستغنينا على جل التقارير و هذبنا النفوس.
لو صرفنا الميزانية المخصّصة للمعهد في ما خصّصت له لأصبحت معاهدنا "جنات عدن تجري من تحتها الأنهار".
لو تقاضى المدرّس أجرا محترما لأصبح محترما و حسّن هندامه و منطقه و عمله و لكان قدوة للتلميذ, يراه في أبهى صورة فيحترمه و يقلده و يتمنى يوما أن يصبح مثله.
لو احترم القيّم عمله في المعهد و نظّم الصفوف و سهر على سير الدروس بين الحصص لما تحولت المؤسسة التربوية إلى سوق لا يهدأ من الثامنة صباحا إلى السادسة مساء.
لو ألغينا قانون العقوبات البوليسية من المؤسسات التربوية و أحللنا محله العدل و الانضباط و الحزم و الجد لتربّى التلميذ على الانصياع طواعية دون إكراه للقانون الداخلي للمؤسسة.
لو ألغينا الحلول التأديبية غير الناجعة و طبقنا الحلول العلمية لمشكلة الغش في الامتحان و مشكلة الاكتظاظ في الأقسام و مشكلة تغيّب الأساتذة و التلاميذ و مشكلة طول البرنامج و مشكلة العنف المدرسي.
لو استقلت المؤسسة عن الإدارة الجهوية قليلا و لو تدمقرطت قليلا و لو ضميرنا صحا قليلا لتحسنا قليلا.
لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو..., لو... لو...,.