عندما
تسمع أن المتخصصين وعلماء الجغرافيا يطلقون على هضبة التِّبِت تعبير "
سقف العالم"،
فلا تجعل الدهشة تتسلل إليك، فهم لم يجانبهم الصواب في هذا التعبير؛ لأن
تلك الهضبة ترتفع عن سطح البحر بحوالي 4 آلاف متر، كما أن بها من الجبال ما
يصل ارتفاعه إلى حوالي 7 آلاف و8 آلاف متر عن سطح البحر.
ولعل المرء قد يتعجب من أن هناك حياة إنسانيَّة في تلك الأصقاع، بالنظر إلى
الظروف المناخيَّة والجغرافيَّة فيها، إذ تنخفض درجات الحرارة إلى مستويات
قياسيَّة فيما تكسو الثلوج قمم الجبال التي ينخفض فيها منسوب الأوكسجين
كثيرًا، إلا أن هذا العجب سيقفز إلى ذروته عندما يعلم أن في تلك المناطق
مسلمين، بل يتعرضون للاضطهاد أيضًا، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم في كثير من
أنحاء العالم!! فكيف بدأت قصة المسلمين في تلك البلاد؟ وما سر تعرضهم
للاضطهاد؟
عرب اليمن في التِّبِت تنقل الكثير من المصادر التاريخيَّة، ومنها كتاب (
المعارف)
لابن قتيبة الدينوري، أن العرب وصلوا إلى التِّبِت في غابر الزمان،
وبالتحديد في عهد الملك تبع بن الأقرن بن شمر يرعش، وهو الملك المعروف بـ
"تُبَّع الأكبر"،
حيث سار بجيش من أهل اليمن ليقاتل الترك فلقيهم في أذربيجان، فقاتلهم، ثم
تابع طريقه إلى الصين فغزاها، قبل أن يخلف في أرض التِّبِت جيشًا من أهل
حمير يقدر عدده بـ12 ألفًا، إلا أن الطبراني يذكر أن الملك الغازي يسمى
أسعد لا تُبَّع.
وبغض النظر عن هذه الاختلافات بين المصادر،
يبقى جوهر الأمر أن هناك صلات بين العالم العربي وتلك المناطق ضاربةٌ في
جذور التاريخ، بل إن معجمًا في وزن (
لسان العرب) يذكر أن كلمة "
تبت" ترجع إلى الأصل العربي "
تبع"، مما يعطينا دلالة على عظم تأثير العرب في هذه المنطقة على المستوى الثقافي.
طلب الدعاة تمثل
هذه الواقعة بدء احتكاك تلك المناطق من العالم مع العرب، إلا أن مجرى
التاريخ حمل لتلك المنطقة ما هو أكثر من مجرد الاحتكاك، إذ حمل الدين
الوافد من بلاد العرب، وهو الدين الإسلامي الحنيف، فكيف وصل الإسلام إلى
تلك المناطق ؟!
عندما انطلق المسلمون في فتوحاتهم في بلاد
الصين حتى وصلوا إلى منطقة كاشجر على يد الفاتح العظيم قتيبة بن مسلم
الباهلي في العام 94 هـ، بدأ المسلمون في التعامل التجاري مع أهالي تلك
المناطق، فدخل الكثير منهم في الإسلام، ومن بينهم أناس في إقليم التِّبِت.
وبلغ من تعلق أهل التِّبِت المسلمين بدينهم الجديد أن طلبوا من الجراح بن
عبد الله والي خراسان في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز أن يرسل
إليهم من يعلمهم دينهم الجديد، فكان أن أرسل إليهم سليط بن عبد الله الحنفي
على أرجح الأقوال.
إلا أن دخول الإسلام في بلاد التِّبِت
لم يكتسب قوة إلا في القرن العاشر الهجري، عندما دخلت الهند في دين الله
تعالى، فبدأ القادة المسلمون ينطلقون بفتوحاتهم نحو التِّبِت، فكانت أولى
المواجهات في عهد الأمير سعيد خان على يد القائد مير مزيد وذلك في عام 930
هـ، وهي المواجهة التي تكررت بعد 25 عامًا، عندما قام ملك كشمير حيدر مرزا
في عام 955 هـ بغزو جديد لبلاد التِّبِت.
وفي أثناء هذه
المحاولات العسكريَّة، كانت الدعوة الإسلاميَّة نشطة للغايَّة من خلال
التجار والدعاة المسلمين الذين توغلوا في تلك المنطقة واستوطنوها، حتى
تكونت عشيرة للمسلمين تعرف باسم "
الأرجونيون"
وهم المولودون لآباء من المسلمين تجارًا ودعاة وأمهات من التِّبِت أسلمن
وتزوجن من المسلمين، وظل الحال هكذا حتى صار الإسلام في التِّبِت قوة كبيرة
لدرجة أن المنطقة نفسها صارت نقطة ارتكاز لانتشار الإسلام في المناطق
المجاورة في الصين.
استقرار المسلمين في التِّبِت استقرت أحوال المسلمين في التِّبِت، واستقرت أحوال التِّبِت في علاقاتها
مع العالم الإسلامي بشكل عام، ويقال إن أول من أدخل المسك في العالم
الإسلامي كان أهل التِّبِت عن طريق العلاقات الاقتصاديَّة التي بلغت أوجها
في عهد الدولة العباسيَّة.
وسارت الأيام بالمسلمين في
التِّبِت نحو الاستقرار، وراحت التجارة تنتقل بين بلدة لداخ، التي يكثر
فيها المسلمون هي وبلدة بلتستان لحكم مجاورتهما إقليم كشمير الواقع غرب
إقليم التِّبِت، وبين لاسا عاصمة الإقليم.
ولما نشبت الحرب بين حاكمي لداخ والتِّبِت في القرن الـ17
الميلادي، لعب المسلمون دورًا كبيرًا في تنفيذ اتفاق الصلح، الذي تم توقيعه
بين الطرفين، بالنظر إلى أنه كان هناك شقًا تجاريًا في الاتفاق بين
الطرفين المتنازعين، وكانت التجارة هي عصب نشاط المسلمين الاقتصادي في ذلك
الوقت، إلى جانب الزراعة والفلاحة، حتى إنه يقال إن المسلمين من علم أهل
التِّبِت زراعة المشمش والتفاح، وغيرهما من المحاصيل.
ومن
المؤشرات القويَّة على أن المسلمين استقر بهم المقام في التِّبِت طويلاً
دون أدنى مضايقة أنهم حصلوا في ذلك القرن الـ17 على جنسيَّة التِّبِت وصارت
لهم مساجد ومقابر. بل إن مسلمي التِّبِت استقبلوا المسلمين النازحين من
نيبال بعدما أجلاهم عنها الحاكم بيريتوي نارايان، الذي استولى على نيبال في
عام 1769م.
ويمكن الإشارة إلى أن بعض الأعراق التي تشكل
المسلمين في التِّبِت ومن بينها الهوي، وهم المسلمون ذوو الأصول الصينيَّة،
وقد استقروا في البلدات الشرقيَّة من إقليم أمدو، وكانوا يتجارون بين
الصين والتِّبِت في الحرير والخزف الصيني. وهناك مسلمو الهوبالنجا، والذين
ترجع أصول تسميتهم إلى مكان تجمعوا فيه في العاصمة التِّبِتيَّة لاسا، بعد
أن قدموا من بلدة سيلينج في إقليم أمدو.
ومن المؤسسات
الدينيَّة التي قامت للمسلمين في التِّبِت المساجد، فكانت هناك 4 مساجد في
لاسا، منها اثنان في شيجاتزي وواحد في تسيدانج كما كامنت توجد في سيلينج
بعض مساجد وكانت لكل مسجد لجنة ترعاه وتشرفه، وهذه اللجنة التي يرأسها أمام
المسجد تقيم حفلات دينيَّة كل سنة.
وكذلك، قامت المدارس
التي كانت تقدم مبادئ تعاليم القرآن الكريم، وكانت الدراسة فيها باللغة
الأورديَّة، وكانت تقدم خدماتها بالمجان، معتمدةً في الدخل على التبرعات
التي تأتي من المسلمين التِّبِتيين. وأيضًا، كانت هناك المقابر التي توزعت
في التِّبِت وفق توزع المسلمين في الإقليم، بل إن هناك بعض المقابر غير
معلومة الأصحاب يقال إنها لمسلمين وفدوا إلى المنطقة لنشر الدعوة
الإسلاميَّة.
الاضطهاد
مع الغزو الصيني للتبت في عام 1959، تعرض المسلمون للاضطهاد العنيف من
جانب الصينيين، إلى جانب بعض المتعصبين من البوذيين في التِّبِت. ومن بين
معالم الاضطهاد الصيني منع المسلمين من دفن موتاهم وفق الشريعة
الإسلاميَّة، إلى جانب فرض حظر السفر، وإغلاق الكثير من المؤسسات
الإسلاميَّة مثل المساجد والمدارس.
كذلك، فإن التجارة التي
كانت بين أيدي المسلمين تم تجميدها بدعوى تأييد المسلمين للحركة
الانفصاليَّة في المنطقة، وهي الحركة التي تطالب باستقلال إقليم التِّبِت.
كذلك، قامت السلطات الصينيَّة بإجبار المسلمين على بيع أراضيهم وممتلكاتهم،
إذا ما رغبوا في الهجرة خارج البلاد، وذلك في عام 1959، أي في أعقاب
الانتفاضة التِّبِتيَّة، وقد اضطر الكثير من المسلمين للقيام بذلك للفرار
بدينهم من القمع الصيني.
وتشير المصادر إلى أن الكثير من
القادة المسلمين التِّبِتيين تعرضوا للاعتقال على يد القوات الصينيَّة،
استنادًا إلى اتهامات مختلفة ومن بينها الاتصال بالزعماء التِّبِتيين، أو
تعليق ملصقات معارضة للوجود الصيني في الإقليم. ولعل تلك الاعتقالات ترجع
إلى أن السلطات الصينيَّة تريد أن تحارب أيَّة نزعة في الإقليم يمكن أن
يظهر منها ما يشير إلى عدم صينيَّة التِّبِت، سواء كانت تلك النزعة ممثلة
في الزعماء التِّبِتيين البوذيين الذين يعتنقون مذهبًا غير المذهب البوذي
الشائع في الصين، أو المسلمين الذين يعتنقون دينا آخر غير البوذيَّة، من
الأصل.
إلا أن الانتهاكات التي تعرض لها المسلمون في
التِّبِت لم تقف عند حد الإساءات والجرائم التي ارتكبت بحقهم على يد
الحكومة الصينيَّة، ولكن المسلمين تعرضوا أيضًا للعديد من الانتهاكات على
يد البوذيين المتعصبين من التِّبِت، وذلك في أثناء المظاهرات التي عمت
إقليم التِّبِت للمطالبة بالاستقلال عن الصين. وتشير المصادر إلى أن خسائر
المسلمين خلال تلك الاضطرابات تمثلت في إحراق المسجد الكبير في العاصمة
لاسا، إلى جانب تدمير عشرات المدارس والمنازل والسيارات، بخسائر قدرت
بملايين الدولارات الأمريكيَّة.
ومن حق المرء أن يتساءل عن السبب الذي دفع البوذيين
التِّبِتيين لأن يتعرضوا للمسلمين بالأذى على الرغم من أنهم وقفوا مع سائر
أبناء شعب التِّبِت في التصدي للغزو الصيني. وعلى الرغم من عدم وجود مبرر
حقيقي، إلا أن السبب قد يرجع إلى الحقد التِّبِتي على المسلمين بدعوى أنهم
من غير أهل الإقليم، لمجرد أنهم يعتنقون دينًا آخر غير دين الأغلبيَّة.
كذلك، لعبت الهند دورًا في اقتلاع الهويَّة الإسلاميَّة من إقليم
التِّبِت؛ فعندما قام الكثير من المسلمين بالهجرة إلى الهند، وبخاصة في
منطقة كشمير، اعتبرت السلطات الهنديَّة أن كل المسلمين في التِّبِت هم من
الهنود، استنادًا إلى أن الكثيرين ترجع أصولهم إلى كشمير وبعض المناطق
المسلمة داخل الهند، وهو ما كان له أثر في إضعاف الوجود المسلم في داخل
التِّبِت.
هناك الكثير من الكلام ليقال عن المسلمين في
التِّبِت، إلا أن كل ذلك سيكون في إطار تعداد أوجه للأزمة الأصليَّة وهي
الاضطهاد الذي تعرض، ولا يزال يتعرض، المسلمون في التِّبِت والكوارث
الإنسانيَّة التي نشأت عن هجرة الكثير منهم واضطرارهم للعيش في بلاد غير
بلادهم.
لذا، من الضروري تحرك العرب والمسلمين لإعادة
هؤلاء المهجرين لبلادهم الأصليَّة وكفالة حقوقهم مثلهم مثل أيَّة أقليَّة
في العالم، دون الاكتفاء بتقديم المساعدات الإنسانيَّة وبناء مدرسة هنا
ومنزل هناك، مع الإقرار بأهميَّة هذه الإجراءات لضمان العيش الكريم
للمسلمين التِّبِتيين في المنفى!