لكي يستشعر العبد حبَّ الله تعالى لابدَّ أوَّلاً أن يدرك نعم الله التي لا تُحصى ولا تُعد.. فنحن يا أختاه تغمرنا النعم، ونتقلَّب فيها دون أن ندري بها، لذلك لا يستمتع بنعم الله ويشكرها إلا القليل، يقول تعالى: (وقليلٌ من عباديَ الشكور).
إنَّ مجرَّد الإحساس بالنعمة لذَّةٌ في حدِّ ذاته لا يمنع من إدراكها إلا الجهل والغفلة، ولقد قرأت ذات مرَّةٍ عن نعم الله التي نغفل عنها فوجدتها الدنيا بما فيها، ومن الأمثلة عليها:
1- نعمة الخلق.. والتي لولاها لبقي الإنسان في ظلمة العدم، ولم يكن شيئًا مذكورًا، قال تعالى: (هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا * إنَّا خلقنا الإنسان من نطفةٍ أمشاجٍ نبتليه فجعلناه سميعًا بصيرًا).
2- نعمة الإنسانيَّة.. فلقد خلق الله الإنسان وكرَّمه، وفضَّله على جميع خلقه، واستخلفه في الأرض وسخَّرها له، وجعله في أحسن صورةٍ وتقويم، وفي ذلك يقول المولى عزَّ وجلَّ: (ولقد كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطيِّبات وفضَّلناهم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً)، فكوننا بشرٌ ولسنا حيوانات، أو جمادات أو أيَّ شيءٍ آخر فهذا نعمةٌ كبيرة، قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).
3- نعمة الإدراك والعلم، يقول تعالى: (اقرأ وربُّك الأكرم * الذي علَّم بالقلم * علَّم الإنسان ما لم يعلم)، وقال أيضًا: (والله أخرجكم من بطون أمَّهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلَّكم تشكرون)، والسمع والبصر والأفئدة هي أدوات الإدراك والمعرفة، والأفئدة نعمة لم يحظ بها غير الإنسان فبها يعقل ويحكم.
4- نعمة البيان النطقي والخطي، وهي أساليب التواصل ولولاها لتعامل البشر مثلما تتعامل البهائم العجماء، قال تعالى: (الرحمن * علَّم القرآن * خلق الإنسان * علَّمه البيان).
5- نعمة الرزق.. فكلُّ ما يحظى به الإنسان ما هو إلا رزقه الذي قدره له المولى عزَّ وجلَّ بعلمه وحكمته ولا رازق سواه، قال تعالى: (يا أيُّها الناس اذكروا نعمت الله عليكم هل من خالقٍ غير الله يرزقكم من السماء والأرض).
6- نعمة الإسلام والإيمان، والهداية إلي صراط الله المستقيم.. فإذا تفكَّرنا قليلاً لوجدنا أنَّه لا نفع يعود على الله من إسلام العباد، ولا ضرر سيصبه من كفرهم، يقول تعالى فى حديثٍ قدسي: (يا عبادي.. إنَّكم لن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي.. لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي.. لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم، كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي.. لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني، فأعطيت كلَّ إنسانٍ مسألته ما نقص ذلك ممَّا عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أُدخِل البحر) رواه مسلم، فالنفع والضرر عائدٌ على الخلق أنفسهم، فالهداية إلى الطريق المستقيم منَّةٌ من الله عزَّ وجلَّ على عباده وليس العكس، قال تعالى: (يمنُّون عليك أن أسلموا قل لا تمنُّوا عليَّ إسلامكم بل الله يَمُنُّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين).
7- نعمة الأخوَّة والمحبَّة في الله، قال تعالى: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا)، وقال أيضًا: (وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألَّفت بين قلوبهم ولـكنَّ الله ألَّف بينهم إنَّه عزيزٌ حكيمٌ).
فلا شيء أجمل من الصحبة الطيِّبة التي تحثُّك على الخير لا لشيءٍ إلا لمرضاة الله، فلا أحد يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه إلا المتحابين في جلال الله، ولذلك خصَّهم دون البشر وجعلهم ضمن السبعة الذين يظلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، قال أحد الشعراء:
ما ذاقت النفس على شهوة ....... ألذ من حبِّ صديقٍ أمين
مـن فاته ودُّ أخٍ صالـحٍ ....... فذلك المغبون حقَّ اليقين
فمجرَّد وجود صديقٍ صالحٍ أمينٍ يدعو صديقه إلى الخير ويأخذ بيده بعيدًا عن الشرّ نعمةٌ كبيرة.. فجزاك الله خيرًا على الأخذ بيد أخواتك.
بعضنا لا يدرك كلَّ هذه النعم إلا إذا فقدها، وإنَّ نعم الله تغمرنا من فوقنا ومن تحت أرجلنا، كلُّ ذرَّةٍ في جسد الإنسان نعمةٌ.. من شعر رأسه مرورًا بجلده وعينيه ولسانه وشفتيه ويديه ورجليه وسمعه وبصره والقدرة على الكلام والتذوق والشم واللمس والريِّ والشبع والتنفس والأهل والولد والعمل والأصدقاء و.. و.. و..، (وإن تعدُّوا نعمت الله لا تحصوها).
كلُّ هذه النعم يسبغها الله علينا ظاهرةً وباطنةً ولا يؤدِّي شكرها إلا القليل، ومع ذلك لا ينزعها الله عن المقصِّرين أو يحرمهم منها، بل يمهلهم ليدركوها ويتوبوا إلى الله.
بل إنَّه تعالى ينتظر توبة العبد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها) رواه مسلم، بل إنَّ الله يفرح بتوبة عبده، قال صلى الله عليه وسلم: (لله أفرح بتوبة العبد من رجلٍ نزل منزلاً وبه مهلكة، ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فوضع رأسه فنام نومة، فاستيقظ وقد ذهبت راحلته، حتى اشتدَّ عليه الحرُّ والعطش أو ما شاء الله، قال: أرجع إلى مكاني، فرجع فنام نومة، ثمَّ رفع رأسه، فإذا راحلته عنده) رواه البخاري.
كلُّ ذلك ولا نستشعر حبَّ الله لعباده!
إنَّ الله حريصٌ على عباده، يحبُّهم، ويريد لهم الخير، ومن مظاهر هذا الحبّ:
- من حبِّ الله لنا أرسل لنا رسلاً مبشِّرين ومنذرين، قال تعالى: (رسلاً مبشِّرين ومنذرين لئلاَّ يكون للناس على الله حجَّةٌ بعد الرسل وكان الله عزيزًا حكيمًا).
- من مظاهر حبِّه تعالى للعباد أنَّه يدعوهم إلى دعائه: (وقال ربُّكم ادعوني أستجب لكم)، إنَّ الله يحبُّ أن يسمع دعاء عبده ليجبه، مع أنَّ هذا لن ينفع الله تعالى بشيءٍ فهو غنيٌّ عن العالمين.
- من حبِّ الله تعالى عباده أمرهم بالصلاة لكي يكونوا على صلةٍ دائمةٍ به عزَّ وجلّ، فالصلاة هي الصلة المباشرة التي تقرِّب العبد من ربِّه، وكلَّما زادت الصلة كلَّما كان من الله أقرب، وصلح حاله في الدنيا والآخرة، وتولاه الله عزَّ وجلَّ وكان في كنفه وحفظه وذمَّته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربِّه وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.
والصلاة هي ملجأ العبد إذا ألمَّ به همٌّ أو حزنٌ، كما كان الرسول إذا حزبه أمرٌ فَزِع إلى الصلاة، وهي راحة العبد وسكنه، وهدوء باله، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أقم الصلاة يا بلال، أرحنا بها) رواه أبو داود بسندٍ صحيح.
والصلاة هي المعونة في الشدائد والملمَّات، قال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة)، وهي أوَّل أسباب فلاح العبد، قال تعالى: (قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون)، وإنَّ
ممَّا يستوجب الدهشة أنَّه مع كلِّ ذلك يستهين الناس بالصلاة مع أنَّها أوَّل أسباب السعادة في الدنيا والآخرة!
ولكي لا أطيل عليك -أختي الكريمة- أنصحك بالرجوع إلى كتاب "الصلاة وحكم تاركها" لابن القيم رحمه الله.
منقول للإفادة