مقال اسبوعي لسيد :كريم شاذلي
سؤال مستفز آخر من جملة الاستفزازات التي تقابلنا كثيرا هذه الأيام!!
ومحاولة جديدة للعبث معك، والسطو على القروش القليلة التي يجب أن تتطهّر منها تماما قبل أن تُصبِح.. مليونيرا!
أعتذر يا صديقي على هذا العنوان الخادع؛ فأنا أؤمن أن عصر التمائم، والمعوذات، ومصابيح علاء الدين ذهبت، وصار لزاما علينا إن أحببنا الفوز ألا نبيع عقولنا في سوق الوهم.
لقد كثرت في الآونة الأخيرة الكتب، والدورات، والبرامج التي تتحدّث عن التنمية البشرية، ولعل موقع "بص وطل" (أحد أكبر المواقع العربية على شبكة الإنترنت) يحوي أرشيفا مميّزا في هذا الصدد، بيد أنه -مع الأسف وكعادة كل شيء حسن- ظهر أدعياء كُثُر، شوّهوا الوجه الجميل، وصار الأمر بالنسبة لهم صيدا يسيرا سهلا.
إنني أؤمن بعدة أمور أرى أن نقف عليها جيّدا؛ وهي:
1- في زمننا المادي المحموم صار من المطلوب الاستماع إلى صوت يُؤكّد لنا أننا قادرون على تخطّي عقبات الحياة، وبأننا كفء للتحدّي الذي فرضته علينا عولمة القرن الحادي والعشرين، صار المرء منا متعطّشا لمن يخبره كيف يداوي جراح الإخفاق، وكيف يعلو بمستوى الثقة بنفسه، وأصبح بحاجة لمن يُعلّمه استراتيجيات لإدارة وقته، والتعامل مع الآخر وبناء العلاقات... وغيرها من الأمور التي تساعده في مسيرة الحياة.
2- كلنا نستطيع أن نكون أفضل مما نحن عليه، لم يصل أحدنا إلى قمة أدائه بعدُ، كلنا -وبلا استثناء- قادرون على أن نكون أفضل (روحيا، وذاتيا، واجتماعيا، وماديا، ومعرفيا، ووظيفيا)، ولعل هذا من دوافع الحياة التي لولاها لشعرنا بسأم الحياة وفراغها، وسل من وصل إلى هدف ظلّ يُكابده أعواما، كيف شعر بفراغ داخلي، لم يملأه إلا بتحديد هدف جديد، هو ما يجعل من أمر تعلم مهارات جديدة نوعا من فتح آفاق أخرى للمرء منا.
3- مداواة جراح النفس مهمة كمداواة جراح الجسد، والخوف من مواجهة أزماتنا النفسية بحجة أنها تُصنّف جهلا على أنها مشكلات عقلية، وبأن المريض النفسي يُعامل كمجنون؛ جعلنا نحجم كثيرا من طرق أبواب علم النفس، إلى أن جاءت مدارس التنمية البشرية لتعيد الثقة في أهمية أن ينظر المرء إلى مشكلاته بنظرة إيجابية، ويتحلّى بالتفاؤل والأمل؛ كي يتغلب عليها، ولا يخشى من اتهامه بالتعقيد والجنون والشطط.
هذه الثلاثية السابقة توضع في خانة الحسنات بالنسبة لمدارس التنمية البشرية، لكننا -بطبيعتنا- نحب أن نتعامل مع الأمور بشيء من العاطفة والحماسة المفرطة، وإذا ما أعجبنا شيئا زدنا عليه من المبالغات حتى جعلناه أشبه بالأسطورة!
وهذا ما حدث مع التنمية البشرية، والمتعاملين مع التنمية البشرية.
ومن خلال مشاهداتي كمهتم بأمر العلاقات الإنسانية وأمور تطوير الشخصية، وجدت مجموعة من الملاحظات التي إن دلّت فإنما تدلّ على جنوح عاطفتنا وعدم اتزانها، ودعوني أفصح عن بعضها:
عيوب خاصة بالمتدرّب:
1- إدمان حضور الدورات
هناك نوع من الاستمتاع بجو التحفيز الذاتي، والاستماع إلى المدرب وهو يتحدّث بنشاط وَهمّة، مؤكدا أنك قادر على فعل المستحيل.
وبدلا من أن نتعلّم خُطوات لنقوم بتطبيقها، ونستغلّ الوقت الذي قضيناه، والأموال التي أنفقناها في العمل، نبدأ في البحث عن دورات أخرى، وندوات جديدة، وأمسيات مختلفة.
2- خروج التنمية البشرية من جوهرها
أنا حضرت الدورة تلك كي أزيد من مهارتي، أو أصلح عيبا لديّ؛ فأنا سواء أكنت مهندسا أو طبيبا أو معلّما أو موظفا، حضرت دورة الثقة في النفس؛ كي أتعلّم مهارات تزيد من ثقتي بنفسي، لكن المُشاهد أننا نترك أعمالنا الحقيقية، ونبدأ في الاهتمام بالشيء الثانوي، وبدلا من أن أستخدم المهارات الجديدة في عملي لأصبح مدرسا أفضل وطيبا متميزا، وموظفا مثاليا، أذهب لأحصل على المزيد من الدورات لأصبح مدربا أو محاضرا.
وانظروا تروا كيف أن مدرّبي التنمية البشرية والمتحدّثين فيها صاروا أكثر من المتدربين.
أما عن المشكلات المتعلّقة بالمدربين والكُتّاب:
1- الجنوح إلى تقديم صورة مثالية وعدم الغوص بحكمة في عمق واقعنا: فنرى المدرب يخبر الجميع أننا جميعا قادرون على تحطيم المستحيل، وقهر الصعاب، والنجاح المبهر، ويَذْكُر قصص ونوادر يؤكد بها ما يقول، دون أن يخبرني كيف!
وعندما يطرح حلولا لا يقترب من واقعنا، وتكون حلولا مثالية، نسمعها أول الأمر فنقتنع بها، لكننا وعندما نبدأ في التطبيق، نُصاب بالإحباط والخيبة.
2- الجنوح للمدرسة الغربية أو لصق أحاديث وآيات ليست في الموضع:
للغرب رؤيته ونظرياته وأطروحاته، والاستفادة من المدرسة الغربية ليس عيبا، لكن الخلل ألا ننتبه أن هناك حلولا لا تناسبنا، وأفكارا قد تصطدم مع رؤيتنا وأفكارنا، كثير من المدرّبين والمؤلفين، لا ينتبه وهو يجمع ويغشى الانبهار عينيه، فلا ينتقي ما يصلح، ويسيء من حيث أراد الفائدة.
وفي المقابل هناك بعض الغيورين على دينهم، المحبين لثقافتهم الإسلامية، يهلل عندما يجد ما يتوافق مع فكرة أو أطروحة إسلامية، ويأخذها ويطير بها فرحا؛ ليؤكد لنفسه وقرّائه أن الإسلام هو أصل كل العلوم، وهناك كُثر يجنحون إلى أعناق الحقائق؛ فيضعوا أحاديث شريفة، وآيات كريمة في مواقع ليست مناسبة لها، وهذا أيضا يضرّ من حيث أردنا الإفادة، والاعتدال والانضباط، والتعامل بأفق رحيب متسع هو أفضل السبل.
3- العناوين والألقاب المبهرة (المركز الأمريكي أو الأوروبي أو الهندي)، (المدرب العالمي، أو المفكر العالمي، أو مؤسس علم، أو صاحب نظرية):
وهذا أمر لا يحتاج مني إلى كثير من التفصيل؛ فالناظر يرى دون جهد يُذكَر أن بعض المدرّبين -لا كلهم- يلجأون إلى صنع ألقاب رنانة ما أنزل الله بها من سلطان، فأرى من يُلقّب نفسه بالمدرّب العالمي وهو الذي لم يصل إلى أطراف بلدته، مع العلم أن الاحتماء بالعلم والموهبة، والجهد والتعب هو أفضل تعريف يمكن أن يعرف المرء منا نفسه.
4- الاستخفاف بالعقل:
في دقيقتين سأجعلك تتوقّف عن التدخين!
بواسطة تسخير العقل الباطن -قديما الجن السفلي- سأجعلك تتمتّع بالثروة، وتحقّق أحلامك، وسيتوقّف ابنك الصغير عن التبوّل اللاإرادي، بواسطة اكتشافي السحري سأغوص بداخلك وأوقظ ماردك النائم!
وليت هذا المدرب يستخدم تقنياته لحل مشكلاته هو الشخصية، ونراه أنجح وأثرى وأسعد الناس.
الشاهد.. أن هناك من المدربين من يستخفّ بعقولنا كثيرا، ويحاول -كالمشعوذين تماما- استغلال اضطرابنا، وانبهارنا، وحاجتنا من أجل تحقيق مكاسب عدة في الخير.
فإن ما ذكرته آنفا هو وجهة نظر شخصية، وأعده نقدا ذاتيا إلى أحد المجالات المهمة المؤثرة، ولقد كنت واحدا ممن وقع في بعض هذه الأخطاء، لذا أحببت أن أضع ملاحظاتي المتواضعة تلك بين أيديكم، طامحا أن نتسلّح جميعا بالوعي، والاتزان، ونضبط مشاعرنا برباط من العقل والبصيرة.
كما أُؤكِّد أن الساحة الآن مليئة بمواهب رائعة، يثرون الحياة بأفكارهم وأطروحاتهم، ونقدي ليس انتقاصا لأحد، بل هو دعوة للتقويم والاعتدال وتصحيح المسار.
منقول