قناص يقتنصُ الفرصة فيقنصُه قناصٌ آخر
تملالت مدينة الزيتون بامتياز، تحفها الحقول من كل الجوانب، لوفرة ثرواتها المائية الجوفية ومياه السواقي، منطقة منبسطة عرفت بوفرة طرائدها ووحيشها الغابوي لاسيما الأرانب والحجل. وداخل تملالت يستقوي الإحساس بالانتماء للبداوة الممزوج بالتباهي والتفاخر وعزة النفس. وللرجولة بهذه الأماكن محددات منها الكرم الحاتمي والذكورة والفحولة و الفروسية وعدم الرغبة في الاستسلام والانكسار والهزيمة مهما كلف ذلك، ولعل هذه المحددات السوسيوثقافية تقف وراء كثير من جرائم الشرف من بينها هذه القضية
محمد رجل في الرابعة والخمسين من العمر نشأ وسط هذه البيئة، متزوج، وأب لستة أبناء منهم شابتان عازبتان لازالتا تحت كنفه داخل بيت تقليدي يضم غرفتي نوم ومطبخ، ومستودع للحبوب والمونة، أب مكافح من أجل توفير لقمة العيش لأبنائه كل شيء بالنسبة إليه على أحسن ما يرام لا تغريه كثيرا مباهج الدنيا، يعيش على زراعة الخضروات وتربية المواشي، ومن هواياته صيد الطرائد بالليل عندما تخرج الأرانب للصيد مهتدية بضوء القمر وينام الحجل فيتم ترصد مرابضه، هكذا قضى محمد جزء من حياته وتعرف بواسطة هذه الهواية على كثير من الأصدقاء من بينهم عبد الهادي ابن المنطقة التي ينحدر منها
عبد الهادي رجل في الأربعينيات من العمر، تحركه بنيته العضلية وقوته نحو الاندفاع والتحدي قناص يحمل بندقية صيد ويخرجها بانتظام في جولات ورحلات للقنص أب لأبناء من زوجة في الثلاثينات من عمرها تحظى بقدر من مقومات الجمال محليا : وجه مستدير، اكتناز، وجمال نالت منه عوامل الطبيعة
ظلت العلاقة بين محمد وعبد الهادي على أحسن ما يرام لتتطور فيما بعد إلى تبادل الزيارات العائلية ، فأصبح كل واحد منهما يحل ببيت الآخر حلول القريب ولو في غيبة الطرف الآخر إلى أن بدأت الشكوك تساور بعضهما البعض، فمحمد تساوره شكوك بخصوص زميله حيث سمع من مقربين بأنه يطأ بنته، ورغم أنه نبهه لما يسمعه من الوسط القروي الذي يعيشان داخله فقد ظل عبد الهادي يزوره في كل الأوقات ولم يستطع محمد إنهاء هذه العلاقة التي ترسخت بين كل أفراد الأسرتين، كما لم يستطع ثني زميله عن زيارة بيته في غيبته فقرر الانتقام لما يعتبره شرفه وهو الدوس على شرف عبد الهادي حيث ربط علاقة مع زوجته فأصبح الطرفان يقنصان الطرائد خفية بالليل في غيبة حارس الغابة مثلما يهويان اقتناص لحظات المتعة من ذوي بعضهما البعض في غيبتهما. ففي تصريحاتهما للدرك اعترفت بنت محمد بتردد عبد الهادي على البيت وقتما شاء وقالت بأنه صديق العائلة وبمثابة الأب كما اعترفت أنه بين الفينة والأخرى يتقاسم معهم الوجبات الغذائية، لكنه ينام وحده داخل غرفة مجاورة ، كما أن زوجة عبد الهادي نفت الدخول مع صديق الزوج في أية علاقة غرامية انتقامية مما يشاع عن زوجها
هكذا ظلت العلاقة متوترة بين القناصين يوحدهما صيد الطرائد وتفرق بينهما الاتهامات المتبادلة فيما بينهما بخصوص اقتناص المتعة من بيوتهما ، وقد حاول محمد إنهاء هذا الخلاف لكن عبد الهادي زار من جديد بيت محمد وتناول العشاء مع العائلة وقضى الليلة هناك فاتهمه محمد بمضاجعة ابنته، وقد تجادلا كثيرا في هذا الموضوع، ولم يسمع فحوى حديثهما سوى عزيز الذي سيفك لغز هذه الجريمة على اعتبار أنه هو أمين سر الطرفين
عزيز شاب في مقتبل العمر حملته ظروفه الاجتماعية ليعيش بين الطرفين يساعد عبد الهادي في رحلات القنص مثلما يفعل مع جميع القناصين، له دراية بأماكن وجود الوحيش وبمرابضه وبطرق إخراجه واستنفاره، هو الأصغر سنا وكاتم أسرار الطرفين، يتقدمهم مسلطا ضوء مصباحه على الطرائد، هو كذلك العلبة السوداء التي كشفت عن كثير من التفاصيل التي غلفت حياة الجاني والضحية وحرك كثيرا من المياه العكرة التي تجمعت بينهما عنوانها الشرف والدفاع عن الفحولة بالهجوم على شرف الطرف الآخر وتدنيسه أكثر مما هو متعة جسدية أو نزوة جنسية
في ليلة خصامهما توجها نحو الغابة للصيد وكانا كثيري الخصام والمشاجرة، ظل عزيز يتقدمهما مهتديا بضوء المصباح باحثا عن الأرانب التائهة وعن مرابض الحجل، وفي كل إشارة كانت طلقات عبد الهادي لا تخطئ الهدف، وفي غمرة التقدم وسط الغابة انتبه عبد الهادي لرباط حذائه الذي فكت عقدته فناول زميله محمد البندقية لكي يتفرغ لحزمه، وبينما هو منهمك في ذلك سدد له من ائتمنه على البندقية طلقتين للرأس أردته قتيلا
اقترب عزيز ليعرف سبب الطلقة فوجد عبد الهادي جثة هامدة، كما وجد نفسه مهددا بنفس المصير إن لم يخف السر ويساعد القاتل على إخفاء معالم الجريمة، استجاب عزيز وساعد محمد على نقل الجثة لأقرب ساقية ثم قاما بلفها وسط أكياس الأسمدة البلاستيكية بعد إحاطتها بالأحجار ثم قاما بإلقائها وسط الساقية الدائمة الجريان بالمياه و قاما بإخفاء البندقية والخراطيش المتبقية داخل حفرة وسط الحقول وعادا ليكملا ليلتهما بالقرية وكأن شيئا لم يقع
مرت عشرة أيام ولا حديث إلا عن اختفاء عبد الهادي واحتمالاته ولم يوقف كل التخمينات إلا صعود الجثة من قعر الساقية فوجدها أحد المزارعين وقد طفت فوق المياه وأخبر على التو الدرك بتملالت الذين قدموا على الفور فتقدم نحوهم عزيز طواعية وحكى كل شيء ففضح الأسرار التي تضخمت بين القاتل والمقتول. محكمة الاستئناف وبعد تداولها في القضية تابعت محمد بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وإخفاء معالم الجريمة وأدانته بثلاثين سنة نافذة فيما قضت بإدانة عزيز بتهمة عدم التبليغ والمشاركة في إخفاء معالم الجريمة وأدانته بثلاث سنوات حبسا نافذا