اندلاع التورة الجزائرية والعمل العسكري
المعلق: كان يوم الخامس من تموز/ يوليو عام 1830 يوما احتلت فيه فرنسا الجزائر المستقلة رافضة دفع ديونها المتراكمة، تاريخ أعلن بداية مسيرة طويلة، مصادرة أراض وتهجير لبناء مستعمرات فرنسية، موجات مقاومة متعددة امتدت على طول الأراضي الجزائرية، مسيرة دفعت بالشعب الجزائري إلى الشارع للمطالبة باستقلال بلاده عشية الحرب العالمية الثانية، قمع عنيف من قبل الشرطة الفرنسية وانتفاضة متجددة في الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954 يوم اندلاع الثورة الجزائرية.
هواري بو مدين: أنا مناضل ثوري.. فقط، مناضل ثوري!!
أحمد بن بيلا: لا يوجد على الأرض قوة لإيقافنا، لا توجد قوة على الأرض توقف الحركة الثورية التي أعلناها هنا!!
المعلق: لا شيء سيوقف حركتنا الثورة التي بدأناها، هكذا قال يومها أحمد بن بيلا، تلك الثورة التي اندلعت في فجر الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954 وعبر عنها بيان جبهة التحرير الوطني وكان من أبرز ما جاء فيه "الهدف الاستقلال الوطني، الأهداف الداخلية تجميع وتنظيم جميع الطاقات السليمة لدى الشعب الجزائري لتصفية النظام الاستعماري، الأهداف الخارجية تدويل القضية الجزائرية، وسائل الكفاح انسجام مع المبادئ الثورية واعتبار من الأوضاع الداخلية والخارجية فإننا سنواصل الكفاح بجميع الوسائل حتى تحقيق هدفنا، فتح مفاوضات مع الممثلين المفوضين من طرف الشعب الجزائري على أسس الاعتراف بالسيادة الجزائرية، وحدة لا تتجزأ، أيها الجزائري إننا ندعوك لتبارك هذه الوثيقة وواجب هو أن تنضم لإنقاذ بلدك والعمل على أن نسترجع له حريته، إن جبهة التحرير الوطني هي جبهتك وانتصارها هو انتصارك". دعونا نتابع ما حصل تلك الليلة على الأراضي الجزائرية فلقد شهدت خمس مناطق تحركات منظمة للمقاومة الجزائرية، كلمة السر خالد وعقبة، إذاً شهدت خمس مناطق جزائرية ثلاثين عملية هجومية ضد أهداف فرنسية في مدن وقرى عدة على النحو التالي: المنطقة الأولى الأوراس بقيادة مصطفى بن بوالعيد، المنطقة الثانية الشمال القسنطيني بقيادة ديدوش مراد، المنطقة الثالثة القبائل بقيادة كارين بلقاسم، المنطقة الرابعة الوسط بقيادة رابح بيطاط، والمنطقة الخامسة الغرب الوهراني بقيادة العربي بن مهيدي.
العربي الزبيري/ كاتب ومؤرخ: فالمقاومة في الجزائر المقاومة المسلحة -وأؤكد على ذلك- ظلت متواصلة في أماكن مختلفة صحيح غير منظمة كما ينبغي صحيح غير مدعومة كما ينبغي ولكنها مقاومة، مقاومة مسلحة وكان الهدف منها هو تحرير البلاد أو جزء من البلاد.
بنجامين ستورا/ مؤرخ فرنسي: الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 تاريخ مهم جدا، على مدى فترات طويلة كانت هناك ثورات مقيدة في بعض القرى والمناطق غير أن هذه المرة كان هدف أولئك الذين صنعوا هذا الحدث هو إعطاء انطباع بوجود ثورة منظمة في كل البلاد، كان هذا هو الحدث في الواقع.
المعلق: كيف نظرت فرنسا إلى هذه الثورة وكيف وثقت أحداثها؟ سؤال يجيب عنه في وثيقة سرية تقرير عسكري حول الأوضاع في شمال إفريقيا صادر في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر عام 1954 "لا زلنا لا نعرف العدد الفعلي لهم لكن التقييم يتم وفق ما يجري من عمليات على الساحة وبفضل ردود أفعالنا تم حصل المخاطر التي تهدد مجمل أرجاء الجزائر لكن هذا التهديد لم ينته طالما لم نقض نهائيا على الخصوم، كما أن الأعمال الإرهابية لم تتوقف ومن المتوقع أن تتضاعف". يبدو مما جاء في هذا التقرير العسكري أن فرنسا كانت على دراية وافية بأن أحداث تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1954 ليست مجرد تحرك بسيط وأنه من المتوقع أن تتضاعف أعمال المقاومة.
بنجامين ستورا: كان يجب تغيير الواقع واللجوء إلى الكفاح المسلح ولكن هذه الخطوة كانت تحمل المجازفة بإعطاء الأفضلية للعنف وللكفاح المسلح على حساب المبادئ الديمقراطية غير أنه كان الثمن الذي وجب دفعه للتاريخ لأن التاريخ يكتب هذا، التاريخ لا يكتب وفق برامج نظرية كبيرة منجزة بشكل مسبق، التاريخ كان هو عملية التحرر من السيطرة لأنه كان يجب فعلا التحرر منها.
العربي الزبيري: ما دام الاتفاق حاصل حول الجوهر فأصبح من السهل جدا أنك تكون الأجيال التي تشارك في ثورات تندلع ربما لا يقتنع بانطلاقتها الجميع ولكنها تجمع كل الناس في أساسها، ففي ليلة أول نوفمبر 1954 كان بيان أول نوفمبر حوصلة ذكية لأدبيات الحركة الوطنية، جميع أطراف الحركة الوطنية.
المعلق: كتب بيان الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر التاريخ وأصبح بمثابة دستور الثورة ومرجعها الأول، باختصار اتبعت جبهة التحرير ثلاثة خطوط عريضة، تطوير وسائل الكفاح وخصوصا التسلح، تدويل القضية الجزائرية، المفاوضات مع الجانب الفرنسي على أساس السيادة الجزائرية.
بنجامين ستورا: كان الشغل الشاغل هو قضية السلاح، لقد تم الانتقال من حركة سياسية وطنية كانت تتبنى إستراتيجية المفاوضات والمظاهرات والاحتجاجات إلى مرحلة البحث عن الأسلحة والمواجهة العنيفة في السنوات من 1955 وحتى 1960، هنا لا يجب التغاضي عن السياق التاريخي لأنه عندما نقوم بالتأريخ فإنه يجب أن نقوم بوضع الأحداث في سياقها، كان هناك نظام استعماري وكان هناك أيضا ما كان يحدث في تلك الفترة في قارات أخرى بعيدا عن العالم العربي، في أميركا اللاتينية مع الثورة الكوبية التي لجأت إلى الكفاح المسلح في الفترة نفسها، بلد آخر نشير إليه هنا دخل في نظام مواجهات عنيفة هو فييتنام.
المعلق: في مسألة تطوير وسائل الكفاح والتسلح نستند إلى وثيقة من أرشيف الخارجية الفرنسية وهي عبارة عن تقرير شامل بعنوان "حول التدخل المصري في إفريقيا الشمالية" بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956 "اعترضت القوات الفرنسية في شهر كانون الثاني/ يناير عام 1955 قافلة في جنوب قفصة -تونس- محملة بالذخائر ومتوجهة إلى الأوراس وقد أكدت التحقيقات أن مصر مصدر هذه الذخائر وأنها آتية من هيئة رسمية، كما تم تفتيش اليخت المصري آتوس الذي كان قادما من الإسكندرية يقوده جنود مصريون بلباسهم العسكري الرسمي وعلى متنه مائة طن من السلاح ولولا ضبط هذا اليخت لما كنا علمنا بتدفق هذا الكم من السلاح من مصر إلى الثوار".
سيلفي تينو/ مسؤولة الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية CNRS: الأسباب التي دفعت الدول إلى مساندة جبهة التحرير الوطني بما في ذلك عسكريا هي في رأيي أسباب سياسية إن لم تكن أيديولوجية، ففي ما يتعلق بعبد الناصر كان الدافع رغبته في بسط سياسة تشمل كل الدول العربية وأن يكون هو زعيم القضية العربية، ومع ذلك لا يمكن تحليل الأمر على أنه نزاع حرب باردة وتلك كانت نظرة فرنسية خاطئة للأمور فالاتحاد السوفياتي لم يدعم بخاصة جبهة التحرير الوطني فالجبهة حصلت على دعم الولايات المتحدة الأميركية وهو الأمر الذي أزعج الفرنسيين، كما أن الصين لعبت دورا بارزا في مساندة جبهة التحرير الوطني.
عثمان السعدي/ سفير سابق ونائب في البرلمان الجزائري: العرب قدموا المال قدموا السلاح للثورة وغنوا لأحداث الثورة الجزائرية، جميلة بوحريد مثلا كانت توجد ثانوية بسوريا اسمها ليسيه جان دارك خرج الطلبة وكسروا تمثال جان دارك ورفعوا لوحة جان دارك ووضعوا مكانها ثانوية أو مدرسة جميل بوحريد، فإذاً العرب تفاعلوا مع الثورة وانفعلوا معها وأيدوها.
المعلق: كيفية الحصول على الأسلحة كانت من أكبر الصعوبات التي واجهت جبهة التحرير الوطنية إذ مارست فرنسا شتى أنواع الضغوطات لصد محاولات التسليح لكن الجبهة تمكنت من الحصول على غنائم المعارض كما أنها نجحت أيضا بجلب الأسلحة برا وبحرا، باختصار تم نقل الأسلحة في المرحلة الأولى من مصر بحرا عبر ليبيا وفي المرحلة الثانية من مصر أيضا عبر ليبيا وتونس والمغرب، وكانت الشحنات التي تصل إلى ليبيا تكمل طريقها إلى تونس لتصل إلى قسنطينة ثم تنقل بواسطة الجمال إلى الأوراس، ومن المغرب كانت الشحنات تصل إلى مناطق وهران والقبائل، هذا ما حصل مع اليخت انتصار واليخت دينا واليخت غود هوب كما تمكن بن بيلا وعبد الكريم بلقاسم من تهريب ألف قطعة سلاح من إسبانيا إلى المغرب.
العربي الزبيري: لكن الفضل يبقى للمصريين أنهم احتضنوا الثورة، كانت الأسلحة تأتي إلى هناك ويغمضون أعينهم رغم المصالح التي كانت تربطهم مع فرنسا وفرنسا كانت تطلب مرات عديدة من الحكومة المصرية أن توقف النشاط الجزائري في القاهرة في مختلف أنحاء مصر.
المعلق: ولكن ومع تزايد العمليات العسكرية لوحدات جيش التحرير وتزويد الثوار بالسلاح عن طريق الحدود الغربية والشرقية وبهدف عزل الثورة عن تونس والمغرب سعت فرنسا إلى غلق الحدود فقامت ببناء خطين من الأسلاك الشائكة المكهربة سميا بخطي موريس وشارل وقد بدأ العمل على بنائهما في آب/ أغسطس من العام 1956، ولم تكتف فرنسا بمحاربة التسليح الجزائري عبر البحر والبر ففي 22 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956 قام سلاح الجو الفرنسي بعملية قرصنة لإحدى طائرات الخطوط الجوية المغربية المتوجهة من المغرب إلى تونس.
بنجامين ستورا: الطائرة التي كانت تقل أهم زعماء الثورة الجزائرية بوضياف، آيت أحمد، بن بيلا وغيرهم كانت متوجهة من الرباط إلى تونس واعترضها الطيران الفرنسي وهي العملية التي أشاعت الفوضى داخل التيار الوطني الجزائري لأنه كانت هناك حسابات سياسية مهمة.
المعلق: تم اعتقال أحمد بن بيلا، محمد حيدر، محمد بوضياف، حسين آيت أحمد ومصطفى الأشقر وقبعوا جميعهم في السجون الفرنسية حتى توقيع اتفاقية وقف إطلاق النار في إيفيان يوم 19 آذار/ مارس عام 1962، وكي نفهم ردة الفعل التي أحدثتها عملية القرصنة الجوية هذه نقلب في صفحات الوثيقة التي أرسلها رئيس البعثة الفرنسية الدائمة لدى منظمة الأمم المتحدة إلى وزير الخارجية بينو في 23 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956 "البيان الصادر عن المجموعة الإفريقية الآسيوية والذي وصف الفعل الفرنسي بأنه عمل استبدادي سيؤدي إلى تعكير إضافي للسلام وإلى زعزعة الأمن في شمال إفريقيا وسيعيق الطريق للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزائر وتحقيق طموحات الشعب الجزائري، إن ردود الفعل الأولية ليست في صالح فرنسا"، إذاً ردود الفعل الأولية ليست في صالح فرنسا ولكن دعونا ننتقل قليلا إلى مصر بعد أسبوع من اختطاف الطائرة الأميركية.
جمال عبد الناصر: قرار من رئيس الجمهورية بتأميم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية. باسم الأمة رئيس الجمهورية مادة 1: تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس البحرية شركة مساهمة مصرية]
بنجامين ستورا: مساندة الثوار الجزائريين بالنسبة لعبد الناصر هي تعزيز لمكانته بين القوى الغربية، وهذا الأمر كان بطبيعة الحال ضربة موجعة فمنذ اللحظة التي استحوذ فيها على السلطة معه برنامج سياسي لتأميم قناة السويس كان طبيعيا أن يصطدم بمعارضة القوى الموجودة آنذاك والتي كانت تبرز في مقدمة الأحداث وهي عموما القوى الفرنسية والبريطانية وخصوصا البريطانيين الذين احتلوا مصر وكانوا يطمعون في إبقاء سيطرتهم على قناة السويس، لذا كانت الفرصة مناسبة من خلال مساندة الجزائريين لتوجيه ضربة ليس فقط للفرنسيين ولكن للبريطانيين أيضا، هذا ما أدركه الفرنسيون والبريطانيون عندما حاولوا توجيه ضربة توقف عبد الناصر عبر عملية السويس في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول 1956 أثناء الحرب الجزائرية.
سيلفي تينو: في اعتقادي أن الملفت للنظر لدى السلطات العامة للحكومات الفرنسية هو أنهم لم يتقبلوا وجود حس وطني جزائري ورغبة الجزائريين في الاستقلال، لقد كانوا يرفضون الاعتراف بذلك، بالنسبة لهم فإن حركة الجزائريين كان يتم التحكم بها من الخارج لأنهم كانوا يرفضون رؤية ما يحدث أساسا في داخل الجزائر، إذاً دعم عملية السويس كان الهدف منها إضعاف عبد الناصر والتخلص منه وفي اعتقادهم أن ذلك كان سيؤدي ربما إلى إنهاء الحركة الجزائرية.
المعلق: من أجل توضيح الأسباب التي تقف وراء توتر العلاقات بين مصر وفرنسا في تلك الآونة نتوقف مجددا عند وثيقة حول التدخل المصري في إفريقيا الشمالية وهي بتاريخ 20 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956 "إن تدريب الجيش المصري للمتمردين توقف في نهاية نيسان/ أبريل وعاد في منتصف شهر أيلول/ سبتمبر عام 1955 مع الإشارة إلى ارتفاع عدد الجزائريين في مجال التدريب من مائة في شهر شباط/ فبراير عام 1956 إلى 170 في بداية شهر آب/ أغسطس حتى وصلت أعدادهم إلى مائتين في شهر تشرين الأول/ أكتوبر".
[فاصل إعلاني]
منظمة التحرير الوطني.. العمل الشعبي والإعلامي
المعلق: شهدت سنة 1956 تطورات كثيرة منها مؤتمر الصومام، ففي 20 آب/ أغسطس اجتمع مسؤولون سياسيون في قيادة الثورة بغية تنظيم صفوف جبهة التحرير وتقييم الأوضاع بعد عامين من اندلاع الثورة.
العربي الزبيري: كان مؤتمر الصومام محطة حاسمة في تاريخ الثورة الجزائرية إذ استطاع أن يوحد القيادة لأن الثورة عندما بدأت بدأت بقيادة جماعية، فكل قائد في منطقة كان مسؤولا على منطقته يعني قادتها ويعين حتى التعيينات الرتب لم تكن موحدة، فجاء مؤتمر وادي الصومام فوحد القيادة، خرج بلجنة التنسيق والتنفيذ هي القيادة العليا والمجلس الوطني للثورة الجزائرية هو القيادة السياسية الأعلى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ثم وحد الرتب العسكرية وهذا تقسيم المناطق، تقسيم الجزائر جغرافيا واستبدل بعض التسميات مثل المنطقة أصبحت ولاية والولاية انقسمت فيما بعد إلى مناطق ثم المناطق إلى نواح والنواحي قسمت إلى غير ذلك.
المعلق: ثبت مؤتمر الصومام الخطوط العريضة لبيان إعلان الثورة عشية اندلاعها وأطلق ما أصبح يعرف بمعركة الجزائر التي تشمل كل عمليات الثورة منذ المؤتمر حتى أيلول/ سبتمبر عام 1957.
بنجامين ستورا: معركة الجزائر حدث مهم جدا لأن جبهة التحرير الوطني وفي أعقاب قرارات مؤتمر الصومام في 20 أغسطس/ آب 1956 قررت نقل الحرب إلى المدن وتحديدا إلى العاصمة الجزائر، لقد كانت المواجهة قاسية مع الدولة الفرنسية لأن المكان هو العاصمة وهذا أمر له دلالته الكبيرة فكان يجب خوض المعركة وإلا خسارتها.
سيلفي تينو: لقد تم تصوير معركة الجزائر بشكل سيء لأن فكرة أي معركة مرتبطة دائما بصورة جبهة وجيش وهذا لم يكن في الواقع ما حدث، الحرب في المدن لم تتم على شكل شبكة منظمة وإنما على شكل عدد من العمليات الإرهابية ومما كان مميزا جدا والذي شكل لحظة مهمة حتى في التاريخ العام للنزاعات هو أنه في هذا التوقيت بالذات تم إعطاء الجيش الفرنسي مهمة رجال الشرطة بمعنى إلقاء القبض على الناس واستجوابهم بهدف تفكيك شبكات إرهابية وهذا كرس لنوع من الحروب ما زلنا نشهدها اليوم ونتحدث عنها كثيرا.
بنجامين ستورا/ شارك في حرب تحرير الجزائر: صحيح أن عمري حينها كان 19 سنة ولكنني كنت مع المجموعة التي كانت تنشط في الجزائر العاصمة مع سعدي وعلي لابوانت وكذلك دباح الشريف المدعو مراد، كان لدينا مسؤولون نعرف عن أنفسنا لديهم، فعندما تعرضت لعمليات التعذيب كان بن مهيدي على بعد مائتي متر، لم يكن بعيدا، وفي المنزل نفسه كان هناك يوسف سعدي وعلي لابوانت، إذاً كان هناك هيكلة تنظيمية وملامح شخصية جزائرية طور التكوين، هذا الأمر كان الجميع يشعر به وإلا لما استطعنا أن نجند أنفسنا ونقوم بالإضراب بذلك الشكل وتلك الحماسة.
بنجامين ستورا: الجيش الفرنسي دخل أيضا هذه الحرب بطريقة عنيفة جدا ومتطرفة ضد جبهة التحرير الوطني في منطقتها التي كان يشرف عليها يوسف سعدي آنذاك، ويمكننا القول بأن المعركة التي استمرت منذ يناير/ كانون الثاني 1957 إلى سبتمبر/ أيلول 1957 كانت حربا مروعة بسبب التعذيب الجماعي الذي شهدته تلك الفترة وليس فقط عمليات التعذيب الجماعية ولكن أيضا عمليات الاختطاف والإعدام خارج مظلة القضاء، لأن الآلاف من الجزائريين اختطفوا ولم يعثر لهم على أثر.
جاك فرجيس/ محامي فرنسي: لقد وصلت إلى الجزائر إبان معركة الجزائر كان قد تم إلقاء القبض على كل المحاميين الجزائريين أو ما كان يطلق عليهم المحامون المسلمون، وكان يدافع عن سجناء جبهة التحرير محامو اليسار الفرنسي وهؤلاء المحامون كانوا يحاولون الدخول في حوار مع القضاة العسكريين، أما نحن فكنا نرى أن هذا الدفاع لم يكن سوى فخ لأن القيم عند القضاة كانت مختلفة عن القيم لدى المتهمين، ونحن لم نكن نستطيع تغيير القضاة فلقد كانوا ما كانوا عليه، ما كنا نستطيع القيام به هو تعبئة الرأي العام ومنع السلطة السياسية من تنفيذ قرارها ألا وهو الحكم بالإعدام لأن النظام السياسي كان حساسا تجاه الرأي العام وهو الأمر الذي أوحى بما يسمى دفاع فصل، نحن كنا نقول إن الحوار غير ممكن، وبرغم كل الخطب التي ألقيت إلا أن القرار بقي واحدا يجب وقف عقوبة الإعدام بتعبئة الرأي العام حول المحاكمة، وقد كانت تلك هي الإستراتيجية التي اقترحنا اتباعها، خلال المحاكمة لم نكن نتحاور مع القضاة وكنا نعتبرهم أعداء وأحيانا كنا نستفزهم حتى يرتكبوا أخطاء، وهكذا عبر فضيحة المحاكمة والأحداث التي شهدتها تم جذب انتباه الرأي العام للمحاكمة.
المعلق: استطاعت معركة الجزائر نقل الاشتباكات إلى قلب العاصمة أمام سمع وبصر الصحافة العالمية والبعثات الدولية، هنا نتوقف عند وثيقة، الرسالة تبرز الرأي العام الأميركي حينها وقد بعثها السفير الفرنسي في واشنطن كوف ديمرفيل إلى وزير خارجيته في 27 نيسان/ أبريل عام 1956 "مسرحية بثلاثة فصول، هكذا يصف الرأي العام الأميركي الأزمة في شمال إفريقيا، إن الأعين تتوجه كلها إلى الجزائر فالصحفيين والمعلقين يدركون أن هناك وضعا خاصا في الجزائر وهناك جهودا مبذولة للولايات المتحدة من أجل توضيح المعطيات الحقيقية الخاصة بالقضية الجزائرية، إن معظم الجهات الإعلامية تنقل مسار العمليات الفرنسية في الجزائر ونستنتج منها أن فرنسا ما زالت بعيدة عن السيطرة على زمام الأمور".
سيلفي تينو: لماذا هذا القرار من قبل جبهة التحرير الوطني؟ الفكرة كانت في البداية في يناير/ كانون الثاني 1957 هي التحضير لدورة جديدة من دورات الأمم المتحدة ونقطة البداية كانت الدعوة إلى الإضراب العام الذي نادت إليه جبهة التحرير الوطني لتثبت شرعيتها وأنها تمثل حقا الجزائريين ولذا فهي تدعو إلى الإضراب العام، ولتفادي هذا الإضراب قام محافظ الجزائر بنقل بعض مهام سلطته إلى الجنرال ماسو الذي كان مسؤولا عن الفوج العاشر للمظليين وهنا قام العسكريون بأداء مهام رجال الشرطة وبدؤوا بإجراءات قمعية وسياسة اعتقالات جماعية وعمليات استنطاق المواطنين وجمع المعلومات وهو الأمر الذي أدى إلى إشاعة عمليات العذيب وتوسعها.
فوكس بوبس/ شاهد عيان على حرب تحرير الجزائر: لقد كان الناس خائفين فعلا، لماذا؟ لأن القصبة كانت معقل الثورة الجزائرية، لقد تم تطويق كل القصبة من قبل العساكر الفرنسيين ولذا كان على الناس أن يمروا عبر ثلاثة حواجز أو أربعة كي يخرجوا من القصبة لقضاء حوائجهم وزيارة أقاربهم، لقد عانى سكان هذه القصبة من هذا الوضع طويلا، لقد كان الخوف من الخروج مسيطرا على الجميع.
عمرو عبد القادر: منذ اليوم الأول من الإضراب دخلنا في صراع مع الجيش، فمن جانبه حاول الجيش وضع المواطنين تحت السيطرة وجرهم إلى فتح المحال وبيع البضائع في الأسواق وإعادتهم إلى عملهم، لقد استعمل جيش الاستعمار والمظليون القبضة الحديدة في الجزائر العاصمة، في الوقت ذاته كنا نحن نحاول تشجيع المواطنين عبر منشورات نؤكد فيه أن الإضراب قد نجح، أما القمع فقد بدأ مع عمليات التوقيف ضد المواطنين الجزائريين والتي كان يقوم بها الجيش الفرنسي الذي كان يملك زمام السلطة على الجزائر العاصمة وهنا ظهر من جانب بعض الضعف لأن الجميع آنذاك أصبحوا عناصر في جبهة التحرير الوطني، لقد كانوا حقا منتمين إلى الجبهة وكانوا يشاركون كل بطريقته سواء بالمال أو بالنشاط السياسي وهذا ما أدركه الجيش الفرنسي.
فوكس بوبس: خلال هذا الإضراب كان العسكر الفرنسيون يقتحمون البيوت بحثا عن الرجال الذين كانت لهم اهتمامات سياسية، ما زلت أتذكر دائما صور تلك الأحداث، لقد جاؤوا يومها وسألوا عن أخي الذي كان حينها في الـ 18 أو الـ 19 من عمره ونحن لم نكن نعلم أنه منخرط في العمل السياسي، الصورة الأخرى التي انطبعت في ذاكرتي أيضا هي عندما كانت المحال مغلقة لمدة ثمانية أيام والعسكر الفرنسيون يقتحمون البيوت بحثا عن أصحاب المحال والبقالات ويدفعونهم إلى إعادة فتحها بالقوة بهدف وقف الإضراب، إنها صورة عالقة بالذاكرة.
المعلق: شهدت الولايات الأولى معركة جبل أرقو في تموز/ يوليو عام 1956، شهدت الولايات الثانية معركة واد بوكركر في أيلول/ سبتمبر عام 1956، شهدت الولاية الثالثة معركة قرية ملوزة في أيام مايو عام 1957، شهدت الولايات الرابعة معركة جبل باب البكوش التي دامت ثلاثة أيام وانتهت بانتصار الثوار، شهدت الولاية الخامسة معركة جبل عمور تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956. حاربت فرنسا التسلح الجزائري الآتي من مختلف الأصقاع كما قامت بقصف عشوائي لمناطق تهريب السلاح وتدريب الثوار تماما كما حصل في قصف قرية سيدي يوسف الواقعة على الحدود الجزائرية التونسية في 8 شباط/ فبراير عام 1958 قصف أودى بحياة 79 مدنيا بينهم 11 امرأة وعشرون طفلا وجرح أكثر من 130 شخصا ودمر مرافق القرية تدميرا كاملا، هذه المجزرة تعتبر من أحد أهم الأحداث التي أثارت حفيظة الرأي العام العالمي ضد الجيش الفرنسي وغيرت في نظرته إلى مسألة الجزائر.
بنجامين ستورا: خلال عام 1958 كان من الصعب تخطي خط موريس والحصول على الأسلحة، لقد كان الهدف أساسا هو قطع الإمدادات عن المقاومة في الداخل وهو ما أشعل نار حرب جديدة أخذت تحولا سياسيا بشكل كبير، إنها مفارقة ساخرة للتاريخ تلك التي جعلت الجيش المتمركز خارج الحدود الجزائرية يتعاظم شيئا فشيئا من حيث تسليحه وثقله السياسي في داخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في حين ومن الناحية الحربية كانت المقاومة في الداخل تحتضر، تجد صعوبة في مواجهة الجيش الفرنسي، إنها مفارقة تاريخية.
المعلق: لكن ورغم ذلك وبعد خمسة أعوام من اندلاع الثورة الجزائرية وفي مذكرة الإدارة العامة للشؤون السياسية الفرنسية في 9 شباط/ فبراير عام 1959 نكتشف أن جبهة التحرير الوطنية استطاعت أن تكمل ولو بشكل محدود عملية التسلح حتى آخر أيام الثورة "يستمر تدفق الأسلحة إلى جبهة التحرير الوطنية عبر ليبيا تونس المغرب مصر روسيا يوغسلافيا الصين إيطاليا وألمانيا الغربية عبر التهريب".
جاك فرجيس: لقد بدا واضحا أن النظام كان عاجزا أمام توسع الثورة في الجزائر فيما كانت المحاكمات تنذر بهزيمة النظام بسبب تعبئة الرأي العام الذي كان يفضح ممارسات النظام، قرر النظام تصفية المحامين، لقد كان رئيس الوزراء السيد ميشيل دوبريه هو الذي أمر بقتل المحامي أمقران ولد أوديه لو أنه قام بتجاوزات أو خروقات قانونية لتم عرضه على المجلس القضائي وحكم عليه بالسجن، لكنه لم يفعل، لقد قتل بسبب خطابه الذي ألقاه، لقد قتلوه بطريقة سرية كما يفعل قطاع الطرق واللصوص، المحامي علي بن منجل ألقي القبض عليه وعذب وألقي به من الطابق السادس من أحد المنازل وأشيع أنه انتحر، لكن الجنرال أوساريس الذي قام بتعذيبه اعترف في كتاب له أنه لم ينتحر بل ألقي من النافذة، لقد كان هناك العشرات من المحامين الذين سقطوا إبان حرب الجزائر، لكن عندما أمعن التفكير في العراق خلال محاكمة صدام حسين ثلاثة محامين لقوا مصرعهم والظروف متماثلة جدا.
بنجامين ستورا: حدث إضعاف للقيم المعنوية في الجمهورية الفرنسية بسبب حرب الجزائر، كان هناك انقسام عميق في المجتمع السياسي وبدا واضحا أن هناك أزمة معنوية في فرنسا، صحيح أن هناك انتصارا عسكريا ولكن بالمقابل هناك أزمة معنوية في فرنسا، بالنسبة للجزائر كان الأمر مماثلا ففي الظاهر الانتصار فرنسي لكنه ترك آثارا في المجتمع الجزائري بشكل دائم، قضايا التعذيب والمفقودين وهي قضايا مهمة جدا لدى المجتمع الجزائري، غير أن هذا المجتمع استعاد الشارع بعد ثلاث سنوات وذلك من خلال مظاهرات ديسمبر/ كانون الأول 1960 وهذا يعني أن النصر كان مؤقتا.
سيلفي تينو: كانت هناك مقالات نشرت عبر الجرائد كشفت عن عمليات التعذيب منذ بدايات الحرب ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 تم الكشف عن عمليات التعذيب في الجزائر، فقط لأن عمليات التعذيب كانت منتهجة حتى قبل الحرب من قبل عناصر الشرطة وأنه في أوساط اليساريين الجميع كان يعلم أن عمليات التعذيب ممارسة في الجزائر وتم كشفها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 كما حدث ذلك من قبل، غير أنه في خريف 1957 حين كانت معركة الجزائر في أوجها انكشفت فضيحة عمليات التعذيب حيث اهتمت الصحافة بفضح عمليات التعذيب وتقديم براهين عن ذلك مما أجبر الحكومة على إعطاء أجوبة من خلال تشكيل هذه اللجنة، هذه اللجنة لم تكن تملك السلطة لوقف عمليات التعذيب غير أن هذه المرحلة كانت مهمة جدا لتوعية الرأي العام الفرنسي بهذه الحرب. ما كان مهما بالنسبة إلى جبهة التحرير الوطنية هو عملية استقرار هيئتها القيادية في الخارج على نحو دائم، فالعمليات العسكرية والقمعية التي انتهجتها سلطات الاحتلال أجبرت الجبهة على تغيير قيادييها بين الفينة والأخرى حتى لا تعرفهم السلطات الفرنسية ومن ثم تلقي القبض عليهم وتزج بهم في السجون أو تخضعهم لجلسات اعتراف، وفي اعتقادي أن نظام القمع الفرنسي كان له دور رئيسي في عدم وجود هيكلة ثابتة لجبهة التحرير الوطنية التي كان قياديوها يسافرون إلى الخارج ويستقرون خارج الجزائر من أجل حماية أنفسهم.
المعلق: ومع اشتداد حدة المعارك وتعدد الأطراف التي دعمت تسليح الثورة الجزائرية بدأت عملية طرح القضية الجزائرية في المحافل الدولية، هكذا تكون جبهة التحرير الوطنية قد اقتربت من تحقيق ثاني خطوطها العريضة الواردة في بيان الثورة عام 1954، تدويل القضية الجزائرية ووصول شارل ديغول إلى سدة الرئاسة الفرنسية بعد تفاقم الأوضاع في الجزائر هو ما سنتابعه معا عبر أرشيف الدول الغربية.
________________________________________
منظمة التحرير الوطني.. العمل الشعبي والإعلامي
المعلق: شهدت سنة 1956 تطورات كثيرة منها مؤتمر الصومام، ففي 20 آب/ أغسطس اجتمع مسؤولون سياسيون في قيادة الثورة بغية تنظيم صفوف جبهة التحرير وتقييم الأوضاع بعد عامين من اندلاع الثورة.
العربي الزبيري: كان مؤتمر الصومام محطة حاسمة في تاريخ الثورة الجزائرية إذ استطاع أن يوحد القيادة لأن الثورة عندما بدأت بدأت بقيادة جماعية، فكل قائد في منطقة كان مسؤولا على منطقته يعني قادتها ويعين حتى التعيينات الرتب لم تكن موحدة، فجاء مؤتمر وادي الصومام فوحد القيادة، خرج بلجنة التنسيق والتنفيذ هي القيادة العليا والمجلس الوطني للثورة الجزائرية هو القيادة السياسية الأعلى للمجلس الوطني للثورة الجزائرية ثم وحد الرتب العسكرية وهذا تقسيم المناطق، تقسيم الجزائر جغرافيا واستبدل بعض التسميات مثل المنطقة أصبحت ولاية والولاية انقسمت فيما بعد إلى مناطق ثم المناطق إلى نواح والنواحي قسمت إلى غير ذلك.
المعلق: ثبت مؤتمر الصومام الخطوط العريضة لبيان إعلان الثورة عشية اندلاعها وأطلق ما أصبح يعرف بمعركة الجزائر التي تشمل كل عمليات الثورة منذ المؤتمر حتى أيلول/ سبتمبر عام 1957.
بنجامين ستورا: معركة الجزائر حدث مهم جدا لأن جبهة التحرير الوطني وفي أعقاب قرارات مؤتمر الصومام في 20 أغسطس/ آب 1956 قررت نقل الحرب إلى المدن وتحديدا إلى العاصمة الجزائر، لقد كانت المواجهة قاسية مع الدولة الفرنسية لأن المكان هو العاصمة وهذا أمر له دلالته الكبيرة فكان يجب خوض المعركة وإلا خسارتها.
سيلفي تينو: لقد تم تصوير معركة الجزائر بشكل سيء لأن فكرة أي معركة مرتبطة دائما بصورة جبهة وجيش وهذا لم يكن في الواقع ما حدث، الحرب في المدن لم تتم على شكل شبكة منظمة وإنما على شكل عدد من العمليات الإرهابية ومما كان مميزا جدا والذي شكل لحظة مهمة حتى في التاريخ العام للنزاعات هو أنه في هذا التوقيت بالذات تم إعطاء الجيش الفرنسي مهمة رجال الشرطة بمعنى إلقاء القبض على الناس واستجوابهم بهدف تفكيك شبكات إرهابية وهذا كرس لنوع من الحروب ما زلنا نشهدها اليوم ونتحدث عنها كثيرا.
بنجامين ستورا/ شارك في حرب تحرير الجزائر: صحيح أن عمري حينها كان 19 سنة ولكنني كنت مع المجموعة التي كانت تنشط في الجزائر العاصمة مع سعدي وعلي لابوانت وكذلك دباح الشريف المدعو مراد، كان لدينا مسؤولون نعرف عن أنفسنا لديهم، فعندما تعرضت لعمليات التعذيب كان بن مهيدي على بعد مائتي متر، لم يكن بعيدا، وفي المنزل نفسه كان هناك يوسف سعدي وعلي لابوانت، إذاً كان هناك هيكلة تنظيمية وملامح شخصية جزائرية طور التكوين، هذا الأمر كان الجميع يشعر به وإلا لما استطعنا أن نجند أنفسنا ونقوم بالإضراب بذلك الشكل وتلك الحماسة.
بنجامين ستورا: الجيش الفرنسي دخل أيضا هذه الحرب بطريقة عنيفة جدا ومتطرفة ضد جبهة التحرير الوطني في منطقتها التي كان يشرف عليها يوسف سعدي آنذاك، ويمكننا القول بأن المعركة التي استمرت منذ يناير/ كانون الثاني 1957 إلى سبتمبر/ أيلول 1957 كانت حربا مروعة بسبب التعذيب الجماعي الذي شهدته تلك الفترة وليس فقط عمليات التعذيب الجماعية ولكن أيضا عمليات الاختطاف والإعدام خارج مظلة القضاء، لأن الآلاف من الجزائريين اختطفوا ولم يعثر لهم على أثر.
جاك فرجيس/ محامي فرنسي: لقد وصلت إلى الجزائر إبان معركة الجزائر كان قد تم إلقاء القبض على كل المحاميين الجزائريين أو ما كان يطلق عليهم المحامون المسلمون، وكان يدافع عن سجناء جبهة التحرير محامو اليسار الفرنسي وهؤلاء المحامون كانوا يحاولون الدخول في حوار مع القضاة العسكريين، أما نحن فكنا نرى أن هذا الدفاع لم يكن سوى فخ لأن القيم عند القضاة كانت مختلفة عن القيم لدى المتهمين، ونحن لم نكن نستطيع تغيير القضاة فلقد كانوا ما كانوا عليه، ما كنا نستطيع القيام به هو تعبئة الرأي العام ومنع السلطة السياسية من تنفيذ قرارها ألا وهو الحكم بالإعدام لأن النظام السياسي كان حساسا تجاه الرأي العام وهو الأمر الذي أوحى بما يسمى دفاع فصل، نحن كنا نقول إن الحوار غير ممكن، وبرغم كل الخطب التي ألقيت إلا أن القرار بقي واحدا يجب وقف عقوبة الإعدام بتعبئة الرأي العام حول المحاكمة، وقد كانت تلك هي الإستراتيجية التي اقترحنا اتباعها، خلال المحاكمة لم نكن نتحاور مع القضاة وكنا نعتبرهم أعداء وأحيانا كنا نستفزهم حتى يرتكبوا أخطاء، وهكذا عبر فضيحة المحاكمة والأحداث التي شهدتها تم جذب انتباه الرأي العام للمحاكمة.
المعلق: استطاعت معركة الجزائر نقل الاشتباكات إلى قلب العاصمة أمام سمع وبصر الصحافة العالمية والبعثات الدولية، هنا نتوقف عند وثيقة، الرسالة تبرز الرأي العام الأميركي حينها وقد بعثها السفير الفرنسي في واشنطن كوف ديمرفيل إلى وزير خارجيته في 27 نيسان/ أبريل عام 1956 "مسرحية بثلاثة فصول، هكذا يصف الرأي العام الأميركي الأزمة في شمال إفريقيا، إن الأعين تتوجه كلها إلى الجزائر فالصحفيين والمعلقين يدركون أن هناك وضعا خاصا في الجزائر وهناك جهودا مبذولة للولايات المتحدة من أجل توضيح المعطيات الحقيقية الخاصة بالقضية الجزائرية، إن معظم الجهات الإعلامية تنقل مسار العمليات الفرنسية في الجزائر ونستنتج منها أن فرنسا ما زالت بعيدة عن السيطرة على زمام الأمور".
سيلفي تينو: لماذا هذا القرار من قبل جبهة التحرير الوطني؟ الفكرة كانت في البداية في يناير/ كانون الثاني 1957 هي التحضير لدورة جديدة من دورات الأمم المتحدة ونقطة البداية كانت الدعوة إلى الإضراب العام الذي نادت إليه جبهة التحرير الوطني لتثبت شرعيتها وأنها تمثل حقا الجزائريين ولذا فهي تدعو إلى الإضراب العام، ولتفادي هذا الإضراب قام محافظ الجزائر بنقل بعض مهام سلطته إلى الجنرال ماسو الذي كان مسؤولا عن الفوج العاشر للمظليين وهنا قام العسكريون بأداء مهام رجال الشرطة وبدؤوا بإجراءات قمعية وسياسة اعتقالات جماعية وعمليات استنطاق المواطنين وجمع المعلومات وهو الأمر الذي أدى إلى إشاعة عمليات العذيب وتوسعها.
فوكس بوبس/ شاهد عيان على حرب تحرير الجزائر: لقد كان الناس خائفين فعلا، لماذا؟ لأن القصبة كانت معقل الثورة الجزائرية، لقد تم تطويق كل القصبة من قبل العساكر الفرنسيين ولذا كان على الناس أن يمروا عبر ثلاثة حواجز أو أربعة كي يخرجوا من القصبة لقضاء حوائجهم وزيارة أقاربهم، لقد عانى سكان هذه القصبة من هذا الوضع طويلا، لقد كان الخوف من الخروج مسيطرا على الجميع.
عمرو عبد القادر: منذ اليوم الأول من الإضراب دخلنا في صراع مع الجيش، فمن جانبه حاول الجيش وضع المواطنين تحت السيطرة وجرهم إلى فتح المحال وبيع البضائع في الأسواق وإعادتهم إلى عملهم، لقد استعمل جيش الاستعمار والمظليون القبضة الحديدة في الجزائر العاصمة، في الوقت ذاته كنا نحن نحاول تشجيع المواطنين عبر منشورات نؤكد فيه أن الإضراب قد نجح، أما القمع فقد بدأ مع عمليات التوقيف ضد المواطنين الجزائريين والتي كان يقوم بها الجيش الفرنسي الذي كان يملك زمام السلطة على الجزائر العاصمة وهنا ظهر من جانب بعض الضعف لأن الجميع آنذاك أصبحوا عناصر في جبهة التحرير الوطني، لقد كانوا حقا منتمين إلى الجبهة وكانوا يشاركون كل بطريقته سواء بالمال أو بالنشاط السياسي وهذا ما أدركه الجيش الفرنسي.
فوكس بوبس: خلال هذا الإضراب كان العسكر الفرنسيون يقتحمون البيوت بحثا عن الرجال الذين كانت لهم اهتمامات سياسية، ما زلت أتذكر دائما صور تلك الأحداث، لقد جاؤوا يومها وسألوا عن أخي الذي كان حينها في الـ 18 أو الـ 19 من عمره ونحن لم نكن نعلم أنه منخرط في العمل السياسي، الصورة الأخرى التي انطبعت في ذاكرتي أيضا هي عندما كانت المحال مغلقة لمدة ثمانية أيام والعسكر الفرنسيون يقتحمون البيوت بحثا عن أصحاب المحال والبقالات ويدفعونهم إلى إعادة فتحها بالقوة بهدف وقف الإضراب، إنها صورة عالقة بالذاكرة.
المعلق: شهدت الولايات الأولى معركة جبل أرقو في تموز/ يوليو عام 1956، شهدت الولايات الثانية معركة واد بوكركر في أيلول/ سبتمبر عام 1956، شهدت الولاية الثالثة معركة قرية ملوزة في أيام مايو عام 1957، شهدت الولايات الرابعة معركة جبل باب البكوش التي دامت ثلاثة أيام وانتهت بانتصار الثوار، شهدت الولاية الخامسة معركة جبل عمور تشرين الأول/ أكتوبر عام 1956. حاربت فرنسا التسلح الجزائري الآتي من مختلف الأصقاع كما قامت بقصف عشوائي لمناطق تهريب السلاح وتدريب الثوار تماما كما حصل في قصف قرية سيدي يوسف الواقعة على الحدود الجزائرية التونسية في 8 شباط/ فبراير عام 1958 قصف أودى بحياة 79 مدنيا بينهم 11 امرأة وعشرون طفلا وجرح أكثر من 130 شخصا ودمر مرافق القرية تدميرا كاملا، هذه المجزرة تعتبر من أحد أهم الأحداث التي أثارت حفيظة الرأي العام العالمي ضد الجيش الفرنسي وغيرت في نظرته إلى مسألة الجزائر.
بنجامين ستورا: خلال عام 1958 كان من الصعب تخطي خط موريس والحصول على الأسلحة، لقد كان الهدف أساسا هو قطع الإمدادات عن المقاومة في الداخل وهو ما أشعل نار حرب جديدة أخذت تحولا سياسيا بشكل كبير، إنها مفارقة ساخرة للتاريخ تلك التي جعلت الجيش المتمركز خارج الحدود الجزائرية يتعاظم شيئا فشيئا من حيث تسليحه وثقله السياسي في داخل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، في حين ومن الناحية الحربية كانت المقاومة في الداخل تحتضر، تجد صعوبة في مواجهة الجيش الفرنسي، إنها مفارقة تاريخية.
المعلق: لكن ورغم ذلك وبعد خمسة أعوام من اندلاع الثورة الجزائرية وفي مذكرة الإدارة العامة للشؤون السياسية الفرنسية في 9 شباط/ فبراير عام 1959 نكتشف أن جبهة التحرير الوطنية استطاعت أن تكمل ولو بشكل محدود عملية التسلح حتى آخر أيام الثورة "يستمر تدفق الأسلحة إلى جبهة التحرير الوطنية عبر ليبيا تونس المغرب مصر روسيا يوغسلافيا الصين إيطاليا وألمانيا الغربية عبر التهريب".
جاك فرجيس: لقد بدا واضحا أن النظام كان عاجزا أمام توسع الثورة في الجزائر فيما كانت المحاكمات تنذر بهزيمة النظام بسبب تعبئة الرأي العام الذي كان يفضح ممارسات النظام، قرر النظام تصفية المحامين، لقد كان رئيس الوزراء السيد ميشيل دوبريه هو الذي أمر بقتل المحامي أمقران ولد أوديه لو أنه قام بتجاوزات أو خروقات قانونية لتم عرضه على المجلس القضائي وحكم عليه بالسجن، لكنه لم يفعل، لقد قتل بسبب خطابه الذي ألقاه، لقد قتلوه بطريقة سرية كما يفعل قطاع الطرق واللصوص، المحامي علي بن منجل ألقي القبض عليه وعذب وألقي به من الطابق السادس من أحد المنازل وأشيع أنه انتحر، لكن الجنرال أوساريس الذي قام بتعذيبه اعترف في كتاب له أنه لم ينتحر بل ألقي من النافذة، لقد كان هناك العشرات من المحامين الذين سقطوا إبان حرب الجزائر، لكن عندما أمعن التفكير في العراق خلال محاكمة صدام حسين ثلاثة محامين لقوا مصرعهم والظروف متماثلة جدا.
بنجامين ستورا: حدث إضعاف للقيم المعنوية في الجمهورية الفرنسية بسبب حرب الجزائر، كان هناك انقسام عميق في المجتمع السياسي وبدا واضحا أن هناك أزمة معنوية في فرنسا، صحيح أن هناك انتصارا عسكريا ولكن بالمقابل هناك أزمة معنوية في فرنسا، بالنسبة للجزائر كان الأمر مماثلا ففي الظاهر الانتصار فرنسي لكنه ترك آثارا في المجتمع الجزائري بشكل دائم، قضايا التعذيب والمفقودين وهي قضايا مهمة جدا لدى المجتمع الجزائري، غير أن هذا المجتمع استعاد الشارع بعد ثلاث سنوات وذلك من خلال مظاهرات ديسمبر/ كانون الأول 1960 وهذا يعني أن النصر كان مؤقتا.
سيلفي تينو: كانت هناك مقالات نشرت عبر الجرائد كشفت عن عمليات التعذيب منذ بدايات الحرب ومنذ نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 تم الكشف عن عمليات التعذيب في الجزائر، فقط لأن عمليات التعذيب كانت منتهجة حتى قبل الحرب من قبل عناصر الشرطة وأنه في أوساط اليساريين الجميع كان يعلم أن عمليات التعذيب ممارسة في الجزائر وتم كشفها في نوفمبر/ تشرين الثاني 1954 كما حدث ذلك من قبل، غير أنه في خريف 1957 حين كانت معركة الجزائر في أوجها انكشفت فضيحة عمليات التعذيب حيث اهتمت الصحافة بفضح عمليات التعذيب وتقديم براهين عن ذلك مما أجبر الحكومة على إعطاء أجوبة من خلال تشكيل هذه اللجنة، هذه اللجنة لم تكن تملك السلطة لوقف عمليات التعذيب غير أن هذه المرحلة كانت مهمة جدا لتوعية الرأي العام الفرنسي بهذه الحرب. ما كان مهما بالنسبة إلى جبهة التحرير الوطنية هو عملية استقرار هيئتها القيادية في الخارج على نحو دائم، فالعمليات العسكرية والقمعية التي انتهجتها سلطات الاحتلال أجبرت الجبهة على تغيير قيادييها بين الفينة والأخرى حتى لا تعرفهم السلطات الفرنسية ومن ثم تلقي القبض عليهم وتزج بهم في السجون أو تخضعهم لجلسات اعتراف، وفي اعتقادي أن نظام القمع الفرنسي كان له دور رئيسي في عدم وجود هيكلة ثابتة لجبهة التحرير الوطنية التي كان قياديوها يسافرون إلى الخارج ويستقرون خارج الجزائر من أجل حماية أنفسهم.
المعلق: ومع اشتداد حدة المعارك وتعدد الأطراف التي دعمت تسليح الثورة الجزائرية بدأت عملية طرح القضية الجزائرية في المحافل الدولية، هكذا تكون جبهة التحرير الوطنية قد اقتربت من تحقيق ثاني خطوطها العريضة الواردة في بيان الثورة عام 1954، تدويل القضية الجزائرية ووصول شارل ديغول إلى سدة الرئاسة الفرنسية بعد تفاقم الأوضاع في الجزائر هو ما سنتابعه معا عبر أرشيف الدول الغربية.