" ليس معنى العنوان أن الكاتب يضع نفسه فى مقعد المعلم بل هى خواطر تلميذ تحمل تجارب العمداء الحقيقيين للثقافة ومن تلك التجارب جمع الكاتب أسلوب التعليم الثقافي وأهميته "
ما هى الثقافة ؟..
الثقافة لغة هى الكثافة أو الشيئ الكثيف .. وفى اصطلاح المثقفين تأتى أبلغ تعريفاتها ما قال به المفكر الأسطورة عباس محمود العقاد وهى أن الثقافة أن تعرف شيئ عن كل شيئ .. والتخصص أو العلم أن تعرف كل شيئ عن شيئ
والثقافة بهذا المعنى ليست ترفا وليست كمالية من كماليات الحياة بل هى ضرورة قاطعة يجب أن تتوافر فى كل إنسان يريد أن يكون له من طبيعة خلقه فضل ومسمى ..
أما بالنسبة لما تعارفت عليه الشعوب من إطلاق لقب المثقفين على شريحة معينة من المجتمع فهو أمر منطقي ولا يتعارض مع التعريف السابق ولا مع ضرورة توافر الثقافة لدى كل إنسان
لأن الثقافة ليست على حال واحد وليست على درجة واحدة فهناك حد أدنى من المعلومات التى يجب أن يكتسبها المرء بالقراءة والمطالعة من حين لآخر .. وهناك المستويات المتوسطة والعليا للثقافة والتى لا تكون واجبة إلا على شريحة المثقفين والعلماء .. فإن كان الشخص العادى من عوام الناس يعتبر من معجزاته أن يكون مثقفا عملاقا وذلك عندما تفوق على ما هو ضرورى من حد أدنى إلى حدود أعلى
فإن الحدود العليا من الثقافة للعلماء ولأصحاب القلم ولأرباب السياسة والمفكرين ضرورة إن غابت يغيب معها وصف العالم والكاتب والمفكر ..
لأن العالم فى أى مجال وأستاذ الجامعة فى أى منهج والمفكر فى أى مجال فكرى لا يمكن قبول مبدأ التخصص منه كحجة أمام تقصيره فى الشأن الثقافي كما يحدث فعلا هذه الأيام فتجد أستاذا جامعيا فى الفيزياء مثلا لا يعرف بعض المعارف الكافية عن التاريخ الإسلامى فيخلط بين السيدة زينب بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام وبين السيدة زينب عقيلة أهل البيت النبوى بنت الإمام على رضي اللهم عنهم جميعا " واقعة حقيقية بالفعل "
والمشكلة أنك تجد بعض هؤلاء العلماء يحتج بأنه غير متخصص فى مجال التاريخ مثلا وكأن المبادئ الأولية التى لا غنى عنها ثقافيا أصبحت بحاجة إلى دراسة أو إعداد
وكان من نتيجة بلوغ بعض العلماء هذه الدرجة من الإضمحلال أن خرجت بعض أجيال الشباب اليوم فى حالة موت إكلينيكي وليس إغماء فقط عن سائر ما يربطهم به انتماء
ومن دلائل ذلك صدور قرار وزارة الخارجية المصرية بعدم قبول أى متقدم لوظيفة السلك الدبلوماسي والقنصلي فى إحدى الدفعات من أربعة أعوام وذلك برغم حاجة الوزارة الملحة لدفعات جديدة بسبب كوارث الاختبار الثقافي الذى أظهرت نتائجه ثقافة من لون جديد لدى الشباب حتى بصدد المعلومات التى يتم تكرارها عشرات المرات فى الحياة اليومية فعجز الشباب الجامعى المتقدم لوظيفة حساسة عن معرفتها ..
مثال تلك المعلومات سؤال عن نجيب محفوظ أجاب أحد المختبرين أنه لاعب كرة قدم وسؤال عن فى أى عام هجرى نحن فأجاب بأننا عام 4000 هجرى !!
وفى أحد الدول العربية وأثناء مرور أحد المفتشين على إحدى المدارس اكتشف أن أحد المعلمين الذين يدرسون للطلبة يقرأ حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو الذى يقول فيما معناه { الرؤيا معلقة برجل طائر } فنطق كلمة بِرجل ومعناها بقدم عن طريق فتح الراء لتصبح رَجل فلم يتمالك المفتش نفسه من الحنق فقال للمدرس { تقول رجل طائر لابد أنه سوبرمان إذا !! }
وأحد المدرسين أيضا قال لأحد المثقفين فى حوار بمعرض الكتاب أنه لم يقرأ كتابا منذ سبعة عشر عاما !!
ويروى الشيخ أبو اسحق الحوينى أن أحد أقربائه خريج معهد للخدمة الإجتماعية جاء إليه سائلا ما المذهب الذى كان يتبعه النبي عليه الصلاة والسلام هل المذهب الشافعى أم المالكى ؟!!!!
فالثقافة وغيابها الرهيب بهذا النحو هى السبب والعصب الرئيسي فى سائر مشاكلنا كمسلمين عرب بالتحديد لأننا فقدنا أدنى روابط الصلة بيننا وبين تاريخنا من جهة وبيننا وبين معنى الحياة من جهة أخرى
ولو تحدثنا بلغة الأرقام سنكتشف هولا .. فدور النشر التى تطبع وتنشر أمهات الكتب ومختلف المطبوعات الثقافية تشير أرقام توزيعها إلى درجات بالغة الإضمحلال بالنسبة لعدد سكان الوطن العربي
وليت الأمر خاصا بأمهات الكتب التى يمكن أن نقبل حجة التخصص والثقل فيها
بل الأمر يتعلق حتى بالروايات والتى تعتبر فنا للتسلية ليس أكثر .. وتدريبا على القراءة ليس أعمق !
نجيب محفوظ مثلا الحائز على جائزة نوبل فى الآداب عام 1990م تقوم دار مصر للطباعة والنشر بطباعة كتاباته وتوزيعها على سائر الدول العربية ومن أوراق النشر أشار أحد الصحفيين ذات مرة أنه لم تتجاوز أى رواية لنجيب محفوظ عند التوزيع خمسة آلاف نسخة فى سائر الدول العربية إلا إذا تم احتساب التوزيع على عدة طبعات لأعوام مختلفة ..
خمسة آلاف نسخة فى شعب عربي من المحيط إلى الخليج تتجاوز أعداد المواطنين فى بعض أقطاره حاجز السبعين مليون نسمة
بينما وفى المقابل عندما فاز خوسيه ساراماجو الكاتب الأسبانى بنوبل أعلنت دار النشر الأسبانية أن رواية نوبل لساراماجو وزعت فى أسبانيا وحدها رقما يقترب من المليون نسخة
بل حتى لو تركنا عالم الكتب بسائر صنوفه وتساءلنا عن الصحف وهى المصدر الأكثر توافرا وسهولة لأى مواطن يريد أن يعرف شيئا من أحوال بلاده والعالم من حوله سنجد ما هو أغرب ..
فأعلى رقم توزيع قرأته لجريدة كان رقم توزيع جريدة الدستور المصرية فى عددها الأسبوعى لا اليومى ويبلغ نسبة التوزيع 180 ألف نسخة فى مصر التى يبلغ تعدادها سبعين مليونا وعدد القراء فيها أربعين مليونا مع الوضع فى الاعتبار أن الدستور جريدة بالغة الجرأة تختص بمتابعة الشأن السياسي المشتعل فى مصر منذ عدة سنوات والشعب عن بكرة أبيه من المفروض أنه مهتم بهذا الأمر ومع ذلك من يهتم ويطالع ربع مليون قارئ وحسب ؟!
ولهذا فمن المستحيل أن يتقدم الوعى لدى المجتمع أن يتجاوب تجاه حقوقه المهدرة فى سائر الدول العربية ما لم يوجه السياسيون والمثقفون الإصلاحيون جهودهم لتنمية الوعى الثقافي أولا ودفع الشباب بالتحديد للقراءة .. أما توجيه الجهود إلى الصراع السياسي مع النظم الحاكمة فسيظل حرثا فى البحر مهما فعلوا لأن الشعوب تحكمها ثقافة اللاثقافة والإصلاحيون كل قوتهم تكمن فى تبعية الجماهير لأفكارهم وتجاوبهم معها
مما سبق يتضح لنا أن الثقافة المعتدلة فى حدها الأدنى مطلبا أساسيا وواجبا لكل فرد فى المجتمع والثقافة المتفوقة الدائمة التجدد مطلبا أساسيا لكل من أمسك بقلم ..
وطبقا لهذا التقسيم سنحاول مناقشة كيفية اكتساب الثقافة وأهميتها للفريقين
أولا .. ثقافة العلماء والمفكرين ..
لئن كان مقبولا أن يتمتع فرادى الناس بشيئ قليل من الثقافة والمطالعة كل فترة .. فإنه لا غنى للعلماء والصحفيين وأهل الإعلام ومن هم على مقعد التدريس والوعظ عن الثقافة المتنوعة والمتجددة وأكرر المتجددة باستمرار ليتمكنوا من أداء وظائفهم وأمانتهم التى آلت إليهم بأماكنهم ..
ولسنا بحاجة للقول إلى أن هذه المجالات تعج بمن هم ليسوا أهلا لمرباعها وتسببوا بتقصيرهم فى تدمير الوعى لدى الجماهير بدلا من أن يقوموا بدفعهم للتنمية ..
وعلى حد قول المفكر المصري الشهير
د. فؤاد زكريا عندما سؤل عن رأيه فى حاجة المجتمع إلى تجديد الخطاب الدينى أجاب أن المسألة ليست مسألة تقصير الدعاة أو الخطباء بل هى كارثة عامة حلت بكل من يأخذ مقعد العلم أو التوجيه فتوقف أى طرف من الأطراف عن البحث والمطالعة يدفع به لهاوية التكرار والخطأ الفاحش والجمود فإما أن تنصرف عنه الجماهير وإما أن تكتسب الجمود منه
وهذا الأمر الذى أشار إليه د. فؤاد زكريا هو الواقع فعلا فليت العلماء يتوقفون فقط عن مطالعة الجديد فى مجالات الثقافة وحسب بل إنهم يتوقفون عن البحث العلمى ومطالعة الجديد فى صلب تخصصهم !
فإن كان هذا حال العلماء والمثقفين الكبار فلا عجب أن يكون حال الجماهير أفدح بكثير ويعم الجهل والأمية ولئن كانت الأمية محتملة وسهلة الدفع بالتعليم فإن الجهل يستلزم جهدا أكبر بكثير حتى يستطيع المصلحون دفع ركامه عن العقول ووضع العلم الصحيح مكانه
مع أن الثقافة والتجديد المعلوماتى إذا أدى المفكر أو العالم حقها دفعت به إلى مصاف الكبار مهما بلغ صغر سنه وهو ما رأيناه مع عدد من المفكرين والعلماء خرجت سمعتهم الرائعة عن حدود جامعاتهم ومؤسساتهم بل وبلادهم ليكتسبوا العالمية نظرا لأن إنتاجهم يخرج دائما عن جهد مرير فى المطالعة والبحث فيكون كنزا لمن يطلبه وظل بعضهم حتى بعد وفاته نبراسا عبر كتبه التى يعجز غيره عن محاكاتها وظل بعضهم حتى أخريات عمره لا يتوقف أبدا مهما كانت الأسباب عن القراءة والبحث ولا يشعر قط أنه بلغ درجة العلم والثقافة لأنها درجة لا يتم بلوغها أبدا ومن شعر بذلك أو قاله فليوقن بأنه جاهل حقيقي ..
لكن مع الأسف الشديد هذا هو الواقع فقد رأينا مثلا عددا من كبار مفكرينا ومثقفينا يطالعون ويحرصون على القراءة فى مجالات تعنيهم كما فعل المثقفون الشيوعيون عندما ركزوا على هذا الجانب فكانت ثقافتهم لها غرض وطالما أصبح للثقافة غرض فقد فسدت دون شك وهو ما حدث بالفعل عندما انهار الإتحاد السوفياتى السابق وفشلت التجربة توقف هؤلاء عن القراءة كلها لا عن الماركسية فحسب بالإضافة لما هو أهم وهو أن تركيزهم على مطالعة مجال واحد وثقافة واحدة دفع بهم إلى متاهات ما أغناهم عنها لو أنهم فقط أعطوا بعض وقتهم لتاريخ حضارتهم وكتابات عمالقة عالمنا القدامى والمحدثين فقد كان هذا كفيلا بتبصير معظمهم لمدى سطحية الفكر الماركسي مقارنة بالفكر والثقافة الإسلامية
فالخطأ كل الخطأ أن يتوقف المفكر عن المطالعة أو أن يكتفي بمطالعة مجال واحد لا يهتم بغيره فلا يطالع الأديب إلا كتب الأدب ولا يطالع العالم إلا ما يخص مجاله ولا يطالع السياسي إلا السياسة ويهملوا فى سبيل ذلك مجالات اللغة والتاريخ والحضارات والفلسفة والإجتماع وكلها مكملات أساسية للشخصية الثقافية .. وقد خسرنا كثيرا جدا بسبب هذا الداء حتى فى مجال الفكر الإسلامى فبعض مفكرينا الإسلاميين عندما قدحوا أذهانهم وبذلوا الجهد لكى يردوا شبهات بعض المستشرقين لم يلتفتوا إلى حقيقة غابت عنهم لعدم مطالعتهم كتب التراث جيدا وهى أن تلك الشبهات ليست فى معظمها جديدة بل أغلبها شبهات قديمة قام المستشرقون بمنتهى الجدية باستخراجها من كتبنا نحن دون أن يأتوا أو يشيروا إلى ردود علماء التاريخ القديم عليها فى عصورهم السالفة
واعتمد المستشرقون على جهلنا بآدابنا وفنوننا وقد ربحوا جزئيا بهذا حتى أتاهم الكبار ففضحوا تلك الأمور وسخروا منهم لسوء تدبيرهم الذى دفعهم للبحث فى الشبهات القديمة المردود عليها بكتب التراث وإهمال الرد عليها طمعا فى تشكيك الأجيال الحالية بعقيدتها لأن علماء السلف ومفكريهم من أمثال العمالقة
السيوطى وبن تيمية وأبو حامد الغزالى ومن قبلهم
الشافعى وبن حنبل وأبو حنيفة تخصصوا فى ردع شبهات الفلاسفة وأصحاب الكلام ولم يتركوا شبهة دون رد بل إن بعضهم تألق أكثر حتى افترض شبهات لم يأت بها الناس فقال بها وقام بالرد عليها
وليس هذا غريبا على من كانت المطالعة والعلم دما تجرى فيه دماءهم فالأصل فى دمائهم الثقافة والفكر
ومن أمثلة تلك الشبهات التى أراد بعض صبيان العلمانية إثارتها على نفس نهج المستشرقين دون أن ينتبه بعض الذين تصدوا للرد أنها قضايا أكل عليها الدهر وشرب .. قضايا التشكيك فى بعض الأحاديث النبوية الصحيحة الإسناد مثل
حديث رضاع الكبير الذى تم حل قضيته قديما بكلمة واحدة وهى أنه حالة خاصة .. وحديث
فقأ موسي عليه السلام لعين ملك الموت وحادثة
الغرانيق وغيرها من تلك القضايا التى يتصدى البعض للدفاع عنها وحلها بحلول ساذجة دون أن يكلف نفسه مطالعة كتابات
الطبري والعسقلانى والغزالى وبن تيمية وغيرهم ممن ألقموا مثيريها حجرا
ورحم الله أئمتنا الكبار فوالله فى عهدهم ما جرؤ هؤلاء على إثارة قضية قديمة مستهلكة .. وكم آلمتنى كلمة أحد القساوسة المتتبعين للقضايا الإسلامية وهو يقول بخبث ..
"
نريد ردا على تلك الشبهات ورحم الله الشعراوى كان يرد عليها ببساطة وأرى أن الأمة لن تحرم من شعراوى آخر "
نعم والله لن تحرم الأمة أبدا وتم بفضل الله الرد من علمائنا المتخصصين فإنه وعد الله ورسوله أن خير العلم باق فينا
وحتى فى المجالات السياسية والأدبية ..
لم يلحظ الأدباء المنغلقون على كتب الأدب وحدها أن الأدب ليس ترفا للأمم بل هو شريان تعبير عن أزمات الأمة وآمالها وهذا لن يكون ما لم يكن الأديب شاعرا أو ناثرا متواصلا مع قضايا أمته ليعبر عنها .. وليت الأدباء طالعوا فى الأدب نفسه حق مطالعته وإلا لاكتشفوا فى التراث كيف كان الشعر والنثر معبرا عن المجتمع
وفى السياسة تجد معظم من يتصدى للكتابة والتحليل والقياس جاهلا بالتاريخ مع أن الثقافة التاريخية لازمة وجوبا للمحلل والكاتب السياسي وإلا كيف يمكن أن يعالج ما يري من أحداث على الساحة الدولية دون إلقاء نظرة على خلفية العلاقات التاريخية بين الدول وتطورها .. وكمثال لو أن رجال السياسة يكلفون أنفسهم نظرة إلى ما أهملوه ما غرقنا فى إجراءات تضيع حقوق الأمة يوما بعد يوم وهى الاتفاقيات الجاهلة بمنطق وثقافة الحركة الصهيونية القائمة على تحقيق المصلحة بأسلوب النفس الطويل وهو ما يعنى ببساطة أنهم لا يركعون إلا لقوة ولا يفيد معهم تفاوض إلا بعد حرب
لكن أتى من عقد الإتفاقيات دونما إجبار ومواصلة المقاومة وهى السلاح الوحيد الذى يجبرها على الرضوخ فكانت النتيجة أن أخلت إسرائيل بسائر تعاقداتها بعد أن أخذت كل ما أرادت من إيقاف العمليات الفدائية وتصدير الخلافات بين الفصائل الفلسطينية بالإضافة إلى اعتراف رسمى ــ دون ثمن ــ بحق إسرائيل فى الوجود !
هذا بالإضافة إلى مجال الفكر الذى تتصدره أسماء لامعة لمفكرين أهملوا الثقافة بعد أن اكتسبوا المكانة الجماهيرية فتوقفوا عن جهد البحث والتجديد ولم يحترموا عقلية القراء فجاءت معظم كتاباتهم الجديدة تكرارا ونقلا واقتباسا
مع أن أمامهم مثل حى مثل
محمد حسنين هيكل لا يضع قلما على ورقة ويكرر معلومة أو تحليل ولا يغامر بتأليف كتاب إلا بعد أن يحيط بسائر جوانب موضوعه فتخرج كتاباته موسوعات لا تحتاج معها مرجعا آخر أبدا
وهو نفس الأسلوب الذى حكم
الأمام الشعراوى فى مجاله وكذلك عباس العقاد وتوفيق الحكيم و الكبيسي العالم العراقي الشهير فتلك الشخصيات لا تتوقف قط عن التجديد الثقافي ولا يتم فتح موضوع أيا كان نوعه أمامهم إلا وتجد عندهم نصيب منه يزيد فى بعض الأحيان عن نصيب بعض متخصصي تلك المجالات
ومن مآثرهم مواقفهم الحكيمة أمثلة تجعل العقل فى حيرة من هذا النبوغ
فعباس العقاد كان تلميذه أنيس منصور متخصصا فى الفلسفة وأستاذا جامعيا فيها وزراه ذات مرة ففتح معه موضوعا حول مؤلفات أحد الفلاسفة الأوربيين فقال أنيس منصور أن لهذا الفيلسوف أربعة كتب فقط تُرجمت للعربية ومد يده بتلك الكتب للعقاد هدية له فضحك العقاد ولم يرد بل نادى خادمه وطالبه بأن يأتى له بالكتب الملقاة على جانب فراشه ..
فاكتشف أنيس منصور لذهوله أنها سبعة كتب لهذا الفيلسوف حصل عليها الأستاذ مترجمة منها أربعة كتب هى التى جلبها أنيس منصور معه وثلاثة لم يسمع عنهم شيئا ..وكان مما رواه عن العقاد أيضا أن منتداه الأسبوعى الذى كان يعقده بمنزله فى حى مصر الجديدة بالقاهرة كان يبدأ دائما بسؤال الحضور للعقاد عن الموضوع الذى يتحدثون فيه
فتكون إجابة العقاد اختاروا أنتم الموضوع .. فيختاروا أى موضوع سياسيا كان أو أدبيا أو تاريخيا فيأخذ العقاد بلبهم فيه
وهذا أيضا كان حال
الشعراوى رحمه الله وأيضا
هيكل الذى علق أحد كبار النقاد فى الأدب عنه قائلا
أن هيكل أصبحت لا أجرؤ على الحديث معه فى الأدب مخافة أن أخطئ فى معلومة عن شاعر جاهلى أو معاصر بعد أن اكتشفت أن معلوماته فى هذا المجال بلغت درجة تثير الإطمئنان أنه لم يفكر فى اقتحام مجال الأدب وإلا لأجلسنا فى بيوتناوالدكتور الكبيسي وهو عالم لغة عربية فى الأصل تعج برامجه بتحليلات سياسية يعجز عنها بعض المحترفين فى هذا التخصص
وما بلغ هؤلاء القمم أماكنهم إلا بعد أن حققوا المعادلة الصعبة وهى الوصول للقمة ومواصلة جهد الصعود لا التوقف ..
فأين هؤلاء من هذا الكاتب المعروف الذى استضافته إحدى المذيعات فسألته عن حكمته فى الحياة فقال لها
{
قول الله عز وجل اطلبوا العلم ولو فى الصين .. فعقبت المذيعة المثقفة صدق الله العظيم !!! }
الثقافة العامة وضرورتها ..
لسنا بحاجة إلى بيان أهمية الثقافة لعامة الناس لتعلقها الشديد فى عصرنا الحالى بالاستقرار النفسي والإجتماعى للفرد فى عصر ضرب فيه الزيف والتشكيك ثوابت المجتمع المسلم سواء فى الدين أو العقيدة أو الوطنية أو القضايا القومية الكبري ..
ويكفي أنه بغياب الحد المطلوب من الثقافة للعامة غابت سائر أوصاف الحياة الإنسانية وانقلبت مذاهب الحياة لتصبح مذاهب معيشة .. والمعيشة هى أن تأكل وتشرب وتتنفس فقط بينما الحياة تنفعل وتكون حضارة وتتأثر وتؤثر بما حولك
فلا يوجد فارق بين الإنسان المثقف والغير مثقف لأنهم غير قابلين للمقارنة من الأصل فمن لا يقرأ الحد الأدنى أو يطالع الشكل المقبول من المعرفة يصبح معطل الذهن والبصر ويٌساق لغيره كما تُساق الأنعام ..
وليس فى هذا القول أدنى مبالغة ويستطيع القارئ التبصر فى المجتمع الآن ويشاهد الدلائل على ذلك والتى تتضح فى وجوه مشاهدى البرامج الفضائية مثلا وتجدهم ينفعلون ويقتنعون بما يسمعون أيا كان القائل وأيا كان الرأى وكأنما يتحدث المتحدث من هؤلاء عن وحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
وهذا بسبب غياب الثقافة الذى نتج عنه غياب العقل لتعطله فغابت البصيرة لغياب العقل ..
وانظروا مثلا ما يحدث على الساحة الفلسطينية والصراع الدموى بين مختلف الفصائل .. وأكرر صراع دموى بالسلاح وقتال بين فصائل تنتمى لنفس العقيدة والقومية فى ظل احتلال أجنبي للأرض
فهل سألت الجماهير نفسها سؤالا منطقيا واحدا وهم بصدد صراع على الحكم ..
أين هى الدولة من الأساس لتقوم على حكمها الصراعات ؟!!
أو يسأل بعض أهل الحسرة على تخاذل العرب والمسلمين عن نصرتهم سؤالا أكثر منطقية عن سبب التخاذل الفلسطينى ذاته بعد رحيل أهل الجهاد الكبار من عائلة الحسينى وغيرهم .. وهل طالعوا تاريخ المنطقة وقارنوا بين احتلال إسرائيل لفلسطين والذى يبلغ عمره نيفا وخمسين عاما فقط .. ما الذى يدفع اليأس إليهم وقد احتلت فرنسا الأراضي الجزائرية مائة وستين عاما واحتلت انجلترا مصر ثمانين عاما ولم تجد تلك الشعوب من يدعمها بمال أو سلاح بل كان شبابها يهاجمون المعسكرات ويستولون على السلاح اللازم من قلب معسكرات العدو ولا يتوقفون عن النضال
وكلهم يؤمن تمام الإيمان أن تقريب الطرف الإسرائيلي لفصيلة دون أخرى هو بهدف إرساء مبدأ التفرقة ..
ألا يعد من الجنون أن تعرف السبب والهدف والمصدر ومع ذلك أينما يدفعك ثلاثتهم تنساق خلفه وتنفجر الصراعات ؟!
وقس على هذا سائر الجماهير العربية إزاء جميع القضايا فى المجتمع .. يتشتت شملهم وقناعاتهم حسب الصدفة فأينما تلقي العيون بصرها إلى مقال فى صحيفة أو برنامج فى شاشة تجد المشاهدين يتوزعون انتماء بين مختلف الأقوال وكل منهم لا يعرف إلا وجهة النظر التى سمعها ولم يفهم منها شيئا بل أخذ فى القضية حكما حسبما رأى وسمع وانتهى الأمر
وذلك بسبب غياب الحس الثقافي الذى لا يأخذ أى قول أيا كان على عواهنه بل يمحص ويتدبر طالما أنه لا يتعلق بحكم قرآنى أو نبوى .. وهذا طبيعى لأن غياب هذا الحس يسلب الإنسان قدرة التمييز فيغلق فهمه على ما يسمع من الأشخاص ولا شأن له بما يأتون به هل هى وجهات نظر علمية أو حقيقية أو سليمة أو أنها أوهام وعقائد فاسدة ..
ومن أمثلة ذلك ما يعانيه بعض العلماء عند مناقشة العامة الذين لا يعرفون الفارق بين عالم متخصص أو مفكر حقيقي وبين ذوى الهوى والغرض .. فتستمع لمناقشات تُضحك حتى البكاء بناء على قناعات مسبقة أخذوها بشكل مطلق
مثلا تميل الجماهير فى بلادنا لكل من تحاربه الدولة من المفكرين والعلماء والسياسيين وحتى من آحاد الناس دونما تفريق بين من
منعته الدولة وهى على باطل وهو على الحق وما أكثرهم لأنه يقوم بتوعية الجماهير وبين الذى اختلف مع الدولة فكان اختلافا
كاختلاف اللصوص على الغنيمة كلاهما على الباطل مثل اختلاف الدولة مع الأحزاب وبين من
منعته الدولة أو عاقبته على خطأ وكان موقفها صحيحا كما حدث فى مصر أثناء قضية نصر أبو زيد مثلا
وقد منعت مصر
محمد حسنين هيكل من وسائل إعلامها الرسمية .. فمالت الجماهير إليه لأنه رجل ثقة فى معلوماته حتى وإن اختلفت معه فى التحليل ولا ينافس النظام لا فى طلب حكم ولا فى انتخابات ولا شأن له بالغرض فيما يقوم به لكن أن تقوم الجماهير بتتبع آخر كل مؤهلاته أنه اختلف مع النظام فسجنه ومعه تاريخ قديم عريض من الزيف والخداع وتفضيل مصلحته الشخصية حتى لو كانت على حساب المصالح الوطنية .. هذا هو الذى يثير الحسرة !
وما كان هذا إلا لغياب الوعى ومحاولة مطالعة الأوراق الكاشفة لتلك الهويات .. وعدم وجود الكبراء الناصحين إما لأن الشباب يهملون السماع وإما أن الكبار تمت التضحية بهم على مذابح الإهمال
ومن المؤسف حقيقة أن الوعى المدرك لدى الأجيال الماضية كان متوافرا لدى معظمهم وهم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة وليس فى الأمر تناقضا فالثقافة لها عدة أوجه بالذات فى عصرنا الحالى سماعا ورؤية وقراءة وكانت أيضا متنوعة لدى أجيال آبائنا وأجدادنا للأميين فى شيوخ المساجد على المنابر وفى أجهزة المسماع { الراديو } وكانت فى مدرسي المدارس والذين لم تكن وظيفتهم تعليم الطلاب فى مدارسهم فقط بل كانت تمتد لسائر المجتمع القروى عبر مختلف المنتديات التى كانت تلتف حول قدر النار فى ليالى الشتاء وفى جلسات المصاطب فى الصيف وفى الكتاتيب التى أخرجت سائر علماء وفقهاء ومفكرى الأمة الكبار وخريجى الجامعات الذين كان الواحد منهم فى ثقافته يساوى الآن عقلية أستاذ جامعى حامل للدكتوراه
وفى ظل هذه الوسائل البسيطة التى لا تمثل شيئا فى زحام الإمكانيات التى يتمتع بها جيل اليوم من معارف بلا حدود وفى متناول اليد .. فى ظل تلك الوسائل البسيطة كانت أجيال آبائنا عمالقة فى ثقافتها حتى الأميين منهم
وذلك لأن الأساسيات توافرت فيهم فليست الثقافة أن تقرأ فقط .. بل الثقافة تحتاج أولا عقلا مدركا ليفصل بين ما هو محكم قطعى لا نقاش فيه وبين ما هو قابل للنقاش .. وبصيرة تمت فطرتها على احترام كل ذى علم ومنحه الصدارة وإنكار كل تافه وطرده من المجتمع بالإهمال
فأين نحن الآن من هذا .. ؟!