خطبةٌ بعنوان:أمسِك عليك لسانك
محمد المهنا
❁ ❁ ❁
إنِ الْحَمْدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِالله مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ)
(يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًايُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد أيها المسلمون:
فقد اختص الله الإنسان بالإكرام، وامتن عليه بنعمة البيان، فقال (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان).
وفي سورة البلد يبين الله تبارك وتعالى جملةً من نعمه على ابن آدم فيقول وهو أصدق القائلين (ألم نجعل له عينين*ولساناً وشفتين*وهديناه النجدين)
قال الإمام أبو حامدٍ رحمه الله: اعلم أن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير الجِرم، عظيم الإحسان أو الجُرم
وصدق فيما قال، فباللسان يوحَّد الله، وبه يُصلَّى على النبي ﷺ وبه تُبايَع اُلحكام، ويتبايع الأنام، وتتم العقود، ويحكم القضاة، وتُستَحَل الفروج، قال ﷺ عن النساء (إِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ).
ولأهمية هذا الأمر تكاثرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهمية ضبط الكلام ووجوب العناية باللسان، بل جعل النبي ﷺ ذلك أهم الأمور فقال لما سأله معاذ فقال يَا رَسُولَ الله أَخبِرنِي بِعَمَلٍ يُدخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعدني منٍ النار، قَالَ: (لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيْمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيْرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: ثم أخبره بأركان الدين وبعض شعائره ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذروَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثُمَّ قَالَ: أَلا أُخبِرُكَ بِملاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟قُلْتُ:بَلَى يَارَسُولَ اللهِ. فَأَخَذَ النبي ﷺ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فقال معاذ: يانَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَامُعَاذُ. وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَو قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلاَّ حَصَائِدُ أَلسِنَتِهِمْ؟)
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: هذا يدل على أن كف اللسان وضبطه وحسبه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه فقد ملك أمره وأحكمَه وضبَطَه.
والمراد بحصائد الألسنة: جزاء الكلام المحرَّم وعقوباته، فإن الإنسان يزرع بقوله وعمله الحسنات والسيئات ثم يحصد يوم القيامة ما زرع، فمن زرع خيرا حصد الكرامة ومن زرع شراً حصد الندامة.
ولأجل ذلك اشتد فَرَقُ الصالحين وخوفهم من تلك الحصائد، فحزموا أمرهم، وخزنوا ألسنتهم وألجموا أفواههم، وكانوا مع ذلك يحاسبون أنفسهم ويتَّهمون عملهم ويستغفرون مولاهم.
دخل عمر رضي الله عنه على أبي بكر رضي الله عنه وإذا بأبي بكر يجبذ لسانه فقال عمر: مَهْ، غفر الله لك، فقال أبو بكر: هذا الذي أوردني الموارد.
وكان ابن مسعود رضي الله عنه يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض شيءٌ أحوجَ إلى طول سجن من لسان.
أيها المسلمون :
أشد حصائد الألسنة ضرراً وخطراً ما كان من سيء الكلام ذا تعلق بالله وآياته ورسوله ﷺ فإن القليل منه كثير، واليسير فيه عند الله كبير، ولهذا غضب الله تعالى على نفر استهزأوا بالنبي ﷺ وأصحابه وقالوا: ما رأينا مثلَ قُرَّائِنا هؤلاءِ أرغبَ بطونًا ولا أكذبَ ألسُنًا ولا أجبَنَ عندَ اللقاءِ فأنزل الله تعالى قوله: (أَبِاللَّهِ وَءَايَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) قال ابنُ عمرَ: كأني أنظرُ إلى الرجل "يعني المستهزِئ" متعلقًا بنسعةِ ناقةِ رسولِ اللهِ ﷺ، وإن الحجارةَ لتنكُبُ رجلَيه، وهو يقولُ: يا رسول الله، إنما كنا نخوضُ ونلعبُ. فيقولُ له رسولُ اللهِ ﷺ: أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ؟ ما يلتفتُ إليه وما يزيدُه عليه.
قال عبدالله بن الإمام أحمد: سمع أبي رجلاً يقول: ينزل الله عزّ وجلّ إلى سماء الدنيا بلا زوال ولا انتقال ولا تغير حال، قال: فارتعد أبي، واصفرّ لونه، ولزم يدي، وأمسكته حتى سكن، ثم قال: قف بنا على هذا المتخرّص، فلما حاذاه قال: يا هذا رسول الله أغيَرُ على ربه عزّ وجلّ منك، قل كما قال رسول الله ﷺ.
ولما حدّث الإمام أحمدُ أصحابه عما وقع له في فتنة القول بخلق القرآن لم يستطع أن يكمل الكلام، وقال: لقد احتجوا علىّ بشئ لا يقوى قلبى ولا ينطلق لسانى أن أحكيه.
ومن أجل ذلك ورد النكير الكبير على من أطلق الكلام دون خطام، قال ﷺ (إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من سخطِ اللهِ ، لا يُلقي لها بالًا ، يهوي بها في نار جهنَّمَ).
ومما يجب النهي عنه: كثرة الجدل والخصومة، فإنها توغِر الصدر وتُهيْج الغضب وتورث الحقد.
فإن كنت يا عبدالله ممن يكثر الجدل والخصومة فراجع نفسك، قال ﷺ: (أَبغَضُ الرجالِ إلى اللهِ الألَدُّالخَصِمُ) متفق عليه.
ومن آفات اللسان: الفُحش والبذاء، فإنه قبيح مذموم منهي عنه وصاحبه خاطئ ملوم، قال ﷺ (إياكم والفُحش فإن الله لا يحب الفُحش ولا التفحُّش).
قال ابن قدامة رحمه الله: واعلم أن الفحش والبذاء هو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ما يكون ذلك في ألفاظ الجماع وما يتعلق به، فإن أهل الخير يتحاشون تلك العبارات ويكنُّون عنها.
ومن أخطر آفات اللسان: الغيبة والنميمة، قال الإمام النووي رحمه الله: اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا في الناس حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس.
وقال رحمه الله في تعريف الغيبة: هي ذكر المرء بما يكرهه سواء كان ذلك في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خلْقه، وسواء ذكرتَه باللفظ أو الإشارة أو الرمز.
وقد نقل القرطبي الاتفاق على أن الغيبة من الكبائر لما جاء فيها من الوعيد الشديد في القرآن والسنة
قال الله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)
قال ابن عباس: حرم الله الغيبة كما حرم الميتة.
وأما النميمة فهي نقل كلام الناس بعضهم في بعض على جهة الإفساد، وهو من الكبائر، قال المنذري أجمعت الأمة على تحريم النميمة، وأنها من أعظم الذنوب عند الله عز وجل.
قال ﷺ: (لا يدخل الجنة نمام) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رَسُول اللَّهِ ﷺ مرَّ بقبرين، ثم أخبر عن صاحبي القبرين فقال: (إنهما يعذبان، ثم ذكر سبب العذاب فقال: أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ
ومما يؤسف له أيها المسلمون: انتشار الغيبة والنميمة بين الناس، حتى صارت كثير من المجالس مرتعاً تؤكل فيه اللحوم وتُنهش فيه الأعراض، واستمرأ الناس ذلك فغاب العاذل وقلّ النكير، مع أنه أمر يغضب الرب ويُكسب الذنب، ويراكم السيئات ويأكل الحسنات، قال ﷺ (أتدرون ما المفلِسُ ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاع. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي من يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد ضرب هذا، وشتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أُخِذ من خطاياهم، فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ) نسأل الله عفوه وعافيته وهداه.
اللهم اجعلنا هداة مهتدين، موفّقين مسدّدين، وأمِتْنا موحِّدين، واكتبنا مع الشاهدين .. اللهم آمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد أيها المسلمون:
فمما يؤسف له ويؤسى عليه: انتشار اللعن بين كثير من المسلمين، خاصتهم وعامتهم، كبارهم وصغارهم، مع أنه من كبائر الذنوب، ومن أقبح حصائد الألسنة !!
وقد حذَّرنا نبينا ﷺ من اللعن في أحاديث كثيرة، منها قوله ﷺ:
(لعن المؤمن كقتله) متفق عليه.
وقوله: (لا تلاعنوا بلعنة الله، ولا بغضبه) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
وأخبر النبي ﷺ كما في سنن أبي داود بسند حسن: أن الرجل إذا لعن شيئاً بغير حق، فإن اللعنة ترجع إليه. أي أن اللعنة ترجع إلى قائلها.
وروى الطبراني بإسناد جيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا إذا رأينا الرجل يلعن أخاه رأينا أن قد أتى باباً من الكبائر.
قال الشيخ ابن باز رحمه الله: لعن المسلم، كبيرةٌ من كبائر الذنوب.
فالواجب علينا جميعاً أن ننكر هذا المنكر وأن نحذِّر منه أشد التحذير.
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت
اللهم أعِذنا من مظلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك المؤمنين يا قوي يا عزيز يا متين.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين