الحمد لله، وصلى الله على نبيه ومصطفاه...وبعد.....
لاشك أنا نعيش هذه الأيام المباركات في شهر ربيع الأول، شهر ميلاد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فهو إمام الأنبياء، وإمام الأصفياء، وإمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، وقائد الغر الميامين، وقائد الغر المحجلين، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين.
هو صاحب المقام المحمود، وصاحب اللواء المعقود، وصاحب الحوض المورود، وصاحب الشفاعة العظمى يوم الدين، شرح الله له صدره، ورفع الله له ذكره، ووضع الله عنه وزره، وزكاه ربه في كل شيء؛
زكاه في عقله فقال: ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [النجم: 2]
وزكاه في صدقه فقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) [النجم: 3].
وزكاه في علمه فقال: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) [النجم: 5].
وزكاه في فؤاده فقال: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 11]
وزكاه في بصره فقال: ( مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) [النجم: 17]
وزكاه في صدره فقال: ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) [الشرح: 1]
وزكاه في ذكره فقال: ( وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) [الشرح: 4]،
ثم أعطاه البشارة الكبري والنعمة العظمي حيث زكاه كله فقال: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم) [القلم: 4].
فو الله الذي لا إله غيره ما خلق الله من خلقه رجلاً أحب إليه من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما من نبي بعثه الله -أيها المسلمون- إلا وقد أخذ الله عليه العهد والميثاق أن يؤمن بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث في وجود هذا النبي وإذا بعث الله محمداً في وجود هذا النبي وجب على هذا النبي أن يذهب إلى رسول الله وأن يؤمن به وأن ينصره كما قال ربنا - جل وعلا -: ( وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِين) [آل عمران: 81].
وفي الحديث الذي رواه الإمام
مسلم والإمام
الترمذي و
أحمد من حديث
أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فضلت على الأنبياء بستٍ: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب - وفي رواية
البخاري: ونصرت بالرعب مسيرة شهر - وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون)).
وفي الحديث الذي رواه
البخاري و
مسلم من حديث
أبي هريرة- رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلاّ وضعت هذه اللبنة).أي: لو وضعت هذه اللبنة لتم لهذا البنيان كماله وجماله وجلاله)، يقول - صلى الله عليه وسلم -: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)).
وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول شافع وأول مشَّفع)).
ألا وإن من أبلغ وأكرم وأعظم تكريم لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-... في يوم الحشر... ذلك اليوم الذي يزداد الهم فيه والكرب علي جميع النساء يوم أن تدنو الشمس من الرؤوس فتغلي من حرارتها، ثم يؤتي بجهنم كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه مسلم من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((يؤتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) فإذا رأت الخلائق ذلك الموقف وذلك المشهد العظيم زفرت وزمجرت غضباً لغضب المولي - عز وجل -، وحينها لا يقدر مخلوق علي أن يقوم علي أرض المحشر يقف على قدميه من الحسرة والفزع والهول فيخر جاثياً علي ركبتيه "وَتَري كلَّ أمة جاثية" ويطول الموقف على جميع الناس حتى الأنبياء والرسل، حتى ينظر الناس إلى من يشفع لهم عند ربهم، والحديث رواه الإمام البخاري ومسلم وأحمد، وهذا لفظ أحمد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وهل تدرون مم ذلك؟؟!! يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض ألا ترون ما نحن فيه، ألا ترون ما قد بلغنا، ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم - عليه السلام -، فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيديه، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول آدم - عليه السلام -: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد عصيت الله - عز وجل - وطردت من الجنة بمعصيتي، نفسي.. نفسي.. نفسي.. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحاً - عليه السلام - ويقولون: يا نوح! أنت أول رسل الله إلى الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح - عليه السلام -: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كان لي دعوة تعجلت ودعوت بها على قومي، نفسي.. نفسي.. نفسي.. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم الخليل. فيأتون إبراهيم - عليه السلام -، فيقولون: يا إبراهيم! أنت خليل الله، وأنت رسول الله، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول إبراهيم - عليه السلام -: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله، وذكر كذباته الثلاث، وقال: نفسي.. نفسي.. نفسي.. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى - عليه السلام - ويقولون: يا موسى! أنت رسول الله، اصطفاك الله على الناس برسالاته وبكلامه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول موسى - عليه السلام -: إن ربي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها، نفسي.. نفسي.. نفسي.. اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى - عليه السلام - ويقولون: يا عيسى! أنت روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك، فيقول عيسى - عليه السلام -: نفسي.. نفسي.. نفسي.. -ولم يذكر عيسى شيئاً- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول الحبيب - صلى الله عليه وسلم -: فيأتوني ويقولون: يا رسول الله! أنت خاتم الأنبياء، وأنت رسول الله، خلقك الله - عز وجل - وفضلك على جميع الأنبياء، فغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ألا ترى ما نحن فيه يا رسول الله! ألا ترى ما قد بلغنا؟ اشفع لنا إلى ربك.... فأقوم وأقول: نعم، أنا لها.. أنا لها، فآتي تحت عرش الرحمن وأخر ساجداً لله - جل وعلا -، فيفتح الله عليَّ بمحامد ويلهمني من الثناء ما لم يفتح به على أحد قبلي، فينادي عليه الحق - جل وعلا - ويقول: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيقول الحبيب: يا رب! وعدتني الشفاعة، فشفعني في خلقك، فيقول الله - تعالى -: قد شفعتك يا محمد، ارجع فإني آتيكم لأقضي بينكم)). وصدق الله - جل وعلا - إذ يقول: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107].
((يا ربي لقد وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك)) وهذه هي أعظم شفاعات المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فيشفع الحبيب لجميع الخلق في أرض المحشر ليقضي الله - جل وعلا - بين خلقه وعباده، فهو حبيب الله، وهو خليل الله، وهو أكرم الخلق على الله - جل وعلا -.
وبالجملة أيها الأحبة لقد ظل الحبيب مكرماً وكرمه الله تكريماً ما كرمه لأحد قط من العالمين... فهل منعه هذا التكريم من الموت؟؟!!
إلى أن نزل عليه قول الله - تعالى -: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) [النصر: 1-3].
أخرج الإمام
الطبراني من حديث
جابر بن عبد الله أنه قال: ((لما نزلت هذه السورة على المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل - عليه السلام -: يا جبريل! أرى أنه قد نعيت إليَّ نفسي بهذه السورة يا جبريل، فقال جبريل: يا رسول الله! والآخرة خير لك من الأولى))...
وفي الحديث الذي انفرد به البخاري عن ابن عباس أنه قال: سورة النصر هي أجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال مُجاهد والضحاك وغيرهم إنها (أي سورة النصر): هي أجل رسول الله.
فيا عبد الله: -
أيا عبد كم يراك الله عاصيا *** حريصا على الدنيا وللموت ناسيا
أنسيت لقاء الله واللحد والثرى *** ويوما عبوسا تشيب منه النواصيا
لو أن المرء لم يلبس ثيابا من التقى ***تجرد عُريانا ولو كان كاسيا
ولو أن الدنيا تدوم لأهلها *** لكان رسول الله حيا وباقيا
ولكنها تفنى ويفنى نعيمها *** وتبقى الذنوب والمعاصي كما هي