ورد عند الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه:
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاللَّفْظُ لِعُثْمَانَ قَالَ: إِسْحَقُ أَخْبَرَنَا وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ فَحَدَّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ حَدِيثًا عَنْ نَفْسِهِ وَحَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوِّيَّةٍ مَهْلِكَةٍ مَعَهُ رَاحِلَتُهُ عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ فَطَلَبَهَا حَتَّى أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ ثُمَّ قَالَ أَرْجِعُ إِلَى مَكَانِيَ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ فَأَنَامُ حَتَّى أَمُوتَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَاللَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ" رواه مسلم
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فِي أَرْضِ دَوِّيَّةٍ مُهْلِكَةٍ) أَمَّا (دَوِّيَّةٍ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الدَّوِّيَّةُ الْأَرْضُ الْقَفْرُ، وَالْفَلَاةُ
وَأَمَّا (الْمَهْلَكَةُ):
هِيَ مَوْضِعُ خَوْفِ الْهَلَاكِ
أما قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ): قَالَ الْعُلَمَاءُ، فَرَحُ اللَّهِ تَعَالَى هُوَ رِضَاهُ
وَقَالَ الْمَازِرِيُّ:
الْفَرَحُ يَنْقَسِمُ عَلَى وُجُوهٍ مِنْهَا: السُّرُورُ، وَالسُّرُورُ يُقَارِبُهُ الرِّضَا بِالْمَسْرُورِ بِهِ،
أَصْلُ التَّوْبَةِ فِي اللُّغَةِ: الرُّجُوعُ، وَالْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ هُنَا: الرُّجُوعُ عَنِ الذَّنْبِ
ولَهَا ثَلَاثَةَ أَرْكَانٍ: الْإِقْلَاعُ، وَالنَّدَمُ عَلَى فِعْلِ تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، وَالْعَزْمُ عَلَى أَلَّا يَعُودَ إِلَيْهَا أَبَدًا، فَإِنْ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ لِحَقِّ آدَمِيٍّ فَلَهَا رُكْنٌ رَابِعٌ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْ صَاحِبِ ذَلِكَ الْحَقِّ، وَأَصْلُهَا النَّدَمُ وَهُوَ رُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَاجِبَةٌ، وَأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ، لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا، سَوَاءٌ كَانَتِ الْمَعْصِيَةُ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَالتَّوْبَةُ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ الْمُتَأَكِّدَةِ
وقد ساق ابن القيم رحمه الله في هذا وهو يشرح هذا الحديث في مدارج السالكين حيث قال:
وهذا موضع الحكاية المشهورة عن بعض العارفين أنه رأى في بعض السكك باب قد فتح وخرج منه صبي يستغيث ويبكي، وأمه خلفه تطرده حتى خرج، فأغلقت الباب في وجهه ودخلت فذهب الصبي غير بعيد ثم وقف متفكرا، فلم يجد له مأوى غير البيت الذي أخرج منه، ولا من يؤويه غير والدته، فرجع مكسور القلب حزينا، فوجد الباب مرتجا فتوسده ووضع خده على عتبة الباب ونام، وخرجت أمه، فلما رأته على تلك الحال لم تملك أن رمت نفسها عليه، والتزمته تقبله وتبكي وتقول: يا ولدي، أين تذهب عني؟ ومن يؤويك سواي؟ ألم اقل لك لا تخالفني، ولا تحملني بمعصيتك لي على خلاف ما جبلتُ عليه من الرحمة بك والشفقة عليك. وإرادتي الخير لك؟ ثم أخذته ودخلت.
لقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم شدة فرح العبد المؤمن التائب، فلا شك أن هذا الرجل سيفرح فرحا شديدا، وذلك لأنه قد أيس من الحياة، قد انقطع رجاؤه، حيث انفلتت راحلته التي يبلغ عليها في سفره، ويقطع عليها المسافات الطويلة، والتي تحمل متاعه و طعامه وشرابه، وتحمله هو بنفسه إلى أن يصل إلى البلد التي ليس بالغا له إلا بشق الأنفس.
ولكن بالمقابل فرح الله تعالى أشد فرحا بتوبة عبده، فإنه سبحانه وتعالى يفرح، لأنه يحب الخير للعبد، يحب لعباده أن يكونوا من أهل السعادة، يحب لهم أن يكونوا من أهل جنته وأهل قربه، فيحب أن يكونوا مؤمنين، وأن يكونوا تائبين، وأن يقبلوا إليه وينيبوا.
ومما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله: إذا أشرق القلب بنور الطاعة أقبلت سحائب وفود الخيرات إليه من كل ناحية، فينتقل صاحبه من طاعة إلى طاعة
أخي المسلم:-
لا يشترط أن تكون في صحراء، ولا يشترط أن تفقد الماء والغذاء، لكن تمر عليك اللحظة بعد الخطيئة والذنب فتكون في صحراء الذنوب وفي قحط الخطايا ظمآن إلى رحمة الله وإلى مغفرته، تحت وطأة تأنيب الضمير، وزلزلة التوبة التي لا تجعلك تستقر حتى تلقي بنفسك بين يدي الله، كالميت يغسل يقلب يميناً وشمالاً في قمة الاستسلام لله رب العالمين
أخي المسلم:-
إن الغاية من المثل الذي ضربه النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث هي دعوة المؤمنين إلى المبادرة بالتوبة، حتى يطهروا أنفسهم من أرجاس المعاصي والذنوب، كما قال الحق سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} ( النور:31)
وعدم القنوت من رحمة الله سبحانه إذ نهانا عن القنوط واليأس من المغفرة، وأخبر أنه يغفر الذنوب كلها لمن تاب، كبيرها وصغيرها دقيقها وجليلها وأن الله الرحيم غفار الذنوب علام الغيوب ومقلب القلوب ستار العيوب، هو الملجأ لكل من ضاقت به الحيل وتقطعت به السبل،
وأن التوبة طريق المتقين، وزاد المؤمنين المخلصين، فإنهم يلازمون التوبة في كل حين،،،،،،،،،، حتى أصبحت لهم شعارا ودثارا، وهذا دأب الصالحين والأولياء المقربين الذين شعشع الإيمان في صدورهم ويستشعرون الخوف من الله ويستحضرون خشيته ومراقبته وأنهم إليه صائرون.
ما أحوج الأمة الإسلامية إلى التوبة إلى الله وأن تنظر إلى قضيتها وأن لا تقنط من رحمة الله وأن تتوكل عليه وأن تعي وتدرك مهمتها التي أوكلها الله إليها إذ إن من أخص خصائص هذه الأمة الخيرية التي وصفها الله بها وخيرية هذه الأمة مشروطة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما صراعنا مع الكفار إلا قضية وأي قضية:
قضية الحق ضد الباطل (قضية تحكيم شرع الله ونبذ نظم الطاغوت مهما تنوعت ألفاظها من دولة مدنية أو ديموقراطية وما شاكلها من ألفاظ لنظم الطاغوت)، قضية الإيمان ضد الكفر (قضية حمل الإسلام نورا وهدى للعالم كافة ودحر الكفر)، قضية العلو في الأرض والتجبر بغير الحق مثل نظم الكفر وأعوانهم وعلى رأسهم أمريكا الكافرة ومن شايعها.
إن بأس المهتدين الطائعين ونصر الله إياهم قريب بإذن الله فمن يروم الجنة يسعى لها والجنة لهل مهرها وسلعة الرحمن غالية والطريق إليها --- بالطاعات للواحد القهار.
اللهم اجعلنا ممن دعاك فأجبته، واستهداك فهديته، واستنصرك فنصرته، وتوكل عليك فكفيته، وتاب إليك فقبلته. اللهم طهر قلوبنا من النفاق، وأعمالنا من الرياء.
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم