إن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، لغة التاريخ ولغة الأصالة، لا ينكر أحد أبدا أنها رابط متين بتاريخ مجيد لأمة عظيمة اسمها "أمة الإسلام".
لقد خفت بريق هذه الأمة وتقهقرت سنوات طويلة نحو الوراء، تاركة المجال لحضارات أخرى تلعب دورا هاما ومؤثرا في هذا العالم، ما كان أبدا يليق بأمتنا العظيمة أن تتنازل عن هذه المكانة السامقة، ولكنها حقيقة يجب علينا التسليم بها بكل أسى وألم.
إذا أردنا التكلم عن أمة ما، عن تاريخ ما، عن حضارة ما، لا بد من ذكر عاملها ومقومها الأساسي وهو "اللغة ولسان القوم"، ففيها المخزون الثقافي والقيمي والأبعاد الحضارية لها، لذلك فإن اللغة ركيزة الأمم وسبيل لنهضتها ورقيها.
في الجزائر دين الدولة هو الإسلام ولغتها الرسمية العربية إلى جانب الأمازيغية كلغة وطنية، وهو تنوع جميل يعكس شعبا عريقا فيه تفاصيل كثيرة تسهم وبدون أدنى شك في زيادة متانة بلدنا، وتعطيه زخما أكثر فأكثر.
إن هذه اللغة العربية ما تزال تراوح مكانها، كلما تقدمت خطوة تراجعت خطوات كثيرة إلى الوراء، كيف لا ولحد الآن ورغم وجود من أسهم منذ الاستقلال في إرساء دعائمها، إلا أننا نحس دوما أنه ما زال ينقص الكثير والكثير في هذا المضمار، والأدهى والأمر هو سيطرة ليست بالبسيطة للغة أجنبية اسمها "الفرنسية" على الساحة في هذا البلد، فلحد الآن لم تأخذ لغتنا ما تستحق وما يجب من دورها الفعال المنوط بها.
لا ننكر أننا قطعنا أشواطا لا بأس بها عن الطريق التعريب، مع محاولة الرسكلة لمبلغي لغتنا في سبيل إزاحة اللسان الفرنسي قليلا، رغم أن المهمة لم تكن على الإطلاق سهلة وسلسة، كيف لا وجزائرنا ظلت تحت هيمنة استعمارية شملت أدق التفاصيل وحاولت طمس الكثير من ملامح الهوية الوطنية، كي يتحقق حلم وهمي شعاره أن "الجزائر قطعة لا تتجزأ من فرنسا"، لكن الجزائر بقيت صامدة أمام هذه المحاولات الفاشلة دامت على مر سنوات طويلة قاربت 132 سنة.
لو تأملنا في معاملاتنا الإدارية لوجدنا "اللغة الفرنسية" سائدة، ولو ألقينا نظرة خاطفة على منتجنا الثقافي لوجدنا الكثير منه بهذه اللغة أيضا، بل حتى لساننا العادي اليومي نجد فيه الكثير من المصطلحات الفرنسية، إليكم أمثلة عنها: مدرسة= ليكول- سيارة= طوموبيل- رصيف= تروتوار..، والأمثلة لا تعد ولا تحصى، هنا أطرح السؤال الآتي: لماذا نعمد إلى إدخال تلك الكلمات في حواراتنا اليومية؟ أنشعر بالخجل من استعمال لفظ عربي فصيح؟
نعم، اليوم أصبحت لغة الضاد مدعاة للخجل وربما وصمة تخلف، كيف لا وإن حاولت التكلم بها بطلاقة أمام الناس لرمقوك بنظراتهم المستغربة المتعجبة، وقد يعتقدون أنك من عصر مغاير لعصرهم، أما إن تعاملت باللغة الفرنسية فستعطى لك مكانة الإنسان المثقف المتحضر المساير لعصره، ودليلي في ذلك جرب استعمال كلتا اللغتين في الدوائر الحكومية وسترى كيف ستعامل بشكل مختلف.
أنا لا أطالب من أن يستعمل كل منا اللغة العربية بشكل كامل، فذاك صعب ومستحيل المنال، لظروف فرضتها المرحلة التي تعيشها الأمة ككل، إنما ما يحز في النفس أننا رضينا بالدنية في لغتنا، الأمر المؤسف أن بيننا أقواما قد يتبرمون من إتاحة الفرصة لها، رغم أنها لغة أعظم كتاب أنزل على رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلو تجاهلناها أكثر ستخفى علينا كثير من معاني هذا الكتاب العظيم.
كي ننهض بهذه اللغة يجب علينا أولا النهوض بأمتنا، فالأمة هي التي تفرض لغتها ومنطقها في هذا العالم الفسيح، أمتنا لها صولاتها وجولاتها على مدى تاريخها المشرق أين كانت الأقوام تتهافت على تعلم وإتقان لغتها، خير مثال على ذلك في الأندلس أين عشق ذلك الشعب جمالية حرفها وروعة أسلوبها وصدق الأحاسيس التي تنقلها، فكانت وبحق لغة: الثقافة والعلم والطب...، فأنتجت لنا إبداعات وروائع ما زال العالم الغربي لحد الآن يقتبس من أنوارها.
لسنا هنا في مقام البكاء على الأطلال، فذاك مجد قد ذهب وولى ونحن أبناء عصرنا وأبناء اليوم كما يقال، لقد ابتعدنا نوعا ما عن حقيقة وجودنا، نسينا أنفسنا، نسينا مجدنا، نسينا أصالتنا، للغة العربية رونق لا مثيل له في أي لغة من لغات العالم الأخرى، لغتنا لغة جميلة بديعة راقية ذات سحر أخاذ وساحر للقلوب، تحتاج هذه اللغة لإسهامات منا كي تدخل عالما أصبح العلم والتكنولوجيا سيده وقائده، في بلدنا الجزائرعلينا أن ندرك أهمية هذه الإرهاصات إدراكا تاما ومتبصرا، إدراكا يجعل همتنا عالية في الاهتمام بها، تعلم اللغات الأجنبية أمر لا بد ولا مفر منه، لكن أبدا لا يكون ذلك على حساب حاضنتنا الأساسية.
يخطئ من يعتقد أن إعادة الاعتبار لها سيكون بمجرد جرة قلم، قطعا لا، إنما يكون ذلك بوعي غير متناه لضرورتها وحتميتها تجاه واقعنا وكينونتنا، لو أغفلناها أكثر، لو بقينا معرضين عنها سنفقد بوصلتنا الحقيقية، فمهما يكن نحن شعب مسلم وسنبقى كذلك و"اللغة العربية" هي الرابط المتين والميثاق الغليظ لهذا الانتماء، يجب علينا أن نتخلص من ركاكة لسان سيطر على ألسنتنا، إن المسؤولية الكبرى تقع على الجميع من مسؤولين ومثقفين وأساتذة...، وكل من له ارتباط بفعالياتها.
الإسلام واللغة العربية من مقوماتنا الأساسية، إن أرسينا دعائمها ارتفع صيتنا في هذا العالم، كم بقي راسخا في أذهاننا مشهد الرئيس الراحل هواري بومدين وهو يخطب في الأمم المتحدة بذلك اللسان العربي الفصيح، فكان ذاك مدعاة للفخر والعزّة حقا، ودليل على أن لنا وجود مؤثر.
كم نتمنى أن يعود ذلك الزمن الجميل، الزمن الذي تعود فيه اللغة العربية رائدة في شتى المجالات، لا بد علينا أن نسعى ونجتهد ونثابر في سبيل تحقيق ذلك، لأنه إن بقينا بهذه الروح الانهزامية المترددة ورضينا بمقعد الخوالف، سنترك المجال لأمم سادت هذا العالم وهي الآن تتبادل الأدوار فيما بينها ونبقى نحن في موقف المتفرج، وهذا ما لا يليق بنا ولا نرضاه لأنفسنا بكل تأكيد.