مقدمــة:
تعتبر الفلسفة الإسلامية من أهم الحركات الفكرية التي ظهرت في ظل الإسلام إما عن طريق التفلسف في عقيدته وإما بالتوفيق بينه وبين الفلسفات الأخرى وهذا يعني أن الإسلام لم يكتف بالنقد فقط وإنما دعا إلى استخدام العقل.
وكان من المنطقي أن نبدأ بتمهيد عن نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، حيث نوضح فيه أن هذه الفلسفة لم تكن عبثًا، ولم تأتِ من فراغ لدى المسلمين، ولم تكن ترفًا عقليًا، بل طاقة مبدعة لها حق التوجيه والريادة.
ذلك أن الفلسفة تفكير ونظر، وعلم ومعرفة. وقد وجه الإسلام المسلمين من أول يوم إلى التفكير وتحصيل المعرفة النافعة، ورفع من شأن العلم والعلماء.
و من هنا نقول أن الفلسفة عند المسلمين يطلق عليها اسم علم الكلام، و قد تبلورت النواة الأولى لعلم الكلام في فضاء بعض الاستفهامات، وما اكتنفها من جدل وتأمل في مدلولات بعض الآيات القرآنية المتشابهة، التي تتحدّث عن الذات والصفات والقضاء والقدر، ثمّ اتسع بالتدريج إطار هذه الأسئلة والتأملات فشملت مسائل أخرى تجاوزت قضية الألوهية والصفات إلى الإمامة، فور التحاق النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وما فتئت قضية الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلامي وقتئذٍ، حتى أضحت من أهم مسائل التفكير العقائدي في حياة المسلمين.
نشأة الفلسفة الإسلامية:
فما يسمى عند الكثيرين بالفلسفة الإسلامية فإن أصله من المشركين ومبدِلة الصابئة من الهند واليونان وأهل الكتاب فهو لا يمت إلى الإسلام بصلة.
يقول ابن القيم في الصواعق المرسلة: فيا للعقول التي لم يخسف بها أين الدين من الفلسفة؟! و أين كلام رب العالمين إلى آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام والصابئين؟! وأين المعقولات المؤيدة بنور النبوة إلى المعقولات المتلقاة عن أرسطو وأفلاطون والفارابي وابن سيناء وأتباع هؤلاء ممن لا يؤمن بالله ولا صفاته ولا أفعاله ولا ملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟! وأين العلم المأخوذ عن الوحي النازل من عند رب العالمين من الشبه المأخوذة عن آراء المنهوكين والمتحيرين؟! فإن أدلوا بالعقل فلا عقل أكمل من عقول ورثة الأنبياء وإن أدلوا برؤسائهم وأئمتهم كفرعون ونمرود وبطليموس و أرسطاطاليس ومقلدتهم وأتباعهم فلم يزل أعداء الرسل يعارضونهم فهؤلاء وأمثالهم يقدمون عقولهم على ما جاءوا به. ويالله العجب كيف يعرض قول الرسول بقول الفيلسوف، وعلى الفيلسوف أن يتبع الرسل وليس على الرسل أن تتبع الفيلسوف، فالرسول مبعوث والفيلسوف مبعوث إليه، والوحي حاكم والعقل محكوم عليه، ولو كان العقل يكتفي به لم يكن للوحي فائدة. و هذه الفلسفة دخلت على المسلمين في أواخر المائة الثانية من الهجرة حيث اجتلبت إلى ديار الإسلام كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشرت فتأثر بها بعض المنهزمين من أبناء الإسلام فبرزت الفرق وثار الجدل وانتشر علم الكلام.
إشكالية المنهج في دراسة الفلسفة الإسلامية
أخذت الفلسفةُ مُسمَّياتٍ عدة، من قبيل "الحكمة" و"العرفان". وعُدَّتْ بعضُ المسمَّيات محاولةً من أصحابها للابتعاد عن دائرة التشوش والممانعة التي لفَّت مصطلح الفلسفة، ونوعًا من المقاربة مع المفاهيم الإسلامية المتسالَم عليها، كمصطلح "العرفان" الذي يجد قبولاً عند المدارس الإسلامية أكثر من مصطلح "الفلسفة"، نتيجة لتراكم مفاهيم مغلوطة عن الفلسفة بخاصة، والفلسفة الإسلامية بعامة – ما أوجد شرخًا غير صغير بين علماء المسلمين أنفسهم عن أصل الفلسفة ومنشئها ومساربها. وقد زادت دراسات المستشرقين من رقعة هذا الشرخ من خلال محاولات بعضهم والبعض ممَّن تأثر بهم من الفلاسفة العرب والمسلمين، اختزال قرون عدة من الإبداع العربي والإسلامي. ولكن أين الخلل في هذا القصور المعرفي عن الفلسفة الإسلامية وعن الإحاطة بإبداعات المسلمين؟
و دور القرآن الكريم في صياغة العقلية الإسلامية، بحيث أصبحت هذه العقلية مهيأة للنظر والإبداع الفلسفي". فالعقلية الإسلامية، ثمرة للمنهج القرآني الذي حثَّ على النظر والاعتبار والتأمل في آفاق الكون ومكنونات النفس". و قد كثر البحث في العصر العباسي في العقائد و اتخذ ألواناً لم تكن أيام النبي صلى الله عليه وسلم ولا الأولين من صحابته، وأخذت هذه البحوث تتركز ليتكون منها علم جديد يسمى علم الكلام. ولنشأته أسباب داخلية وأخرى خارجية.
عوامل نشأة و تطور الفلسفة الإسلامية:
إن علم الكلام تحكّمت في نشأته وتطوره مجموعة ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية، كانت سائدة في المجتمعات الإسلامية آنذاك، فأمدت عقل المتكلم بعناصر وأدوات خاصة، هي نتاج تلك البيئة، ولذلك تجلّت البيئة التاريخية للمتكلم وأبعادها المعرفية في تراث الكلام الإسلامي. وظلّت البنية الأولى للفكر الإسلامي تموّن التفكير الكلامي، وتقوده في نسقها المحدّد، فتكرّرت في المؤلفات الكلامية منذ نضوج علم الكلام الأفكار ذاتها، وأنماط الاستدلال، و الموضوعات، ودخل هذا العلم مساراً مسدوداً، دأب فيه على العودة إلى نفس المشكلات والتحديات التي بحثها السلف، ومكث يتحرك في مداراتها، يبدأ دائماً من حيث انتهى، وينتهي من حيث بدأ، من دون أن يتقدّم في حركته خطوة إلى الأمام. ومع وفرة ما ألف في هذه الحقبة، غير أنه لم يكن سوى شروح وهوامش على المتون التقليدية.
العوامـــل الداخلية:
1. لقد كان للحروب الداخلية في المجتمع الإسلامي أثر هامّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية، وتوالد أسئلة جديدة تتمحور حول حكم مرتكب الكبيرة، وخلق أفعال العباد، وحرية واختيار المكلّف.. وغيرها. كذلك عملت الفتوحات على إدخال شعوب عديدة في الإسلام، لبثت مدّة طويلة في نحل كتابية أو وثنية، ولم تستطع حركة الدعوة العاجلة تحرير وعي هؤلاء المسلمين من ترسبات أديانهم ونحلهم السابقة، فنجم عن ذلك شيوع مناخ فكري مضطرب يموج برؤى متقاطعة، و سجالات صاخبة، غذّتها في فترة لاحقة أفكار ومقولات المنطق والفلسفة، والتي تدفقت من مراكز الترجمة خاصة في عصر المأمون العباسي.
2. تعرض القرآن بجانب دعوته إلى التوحيد لأهم الفرق والديانات التي كانت منتشرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليهم ونقض أقوالهم. فكان طبيعياً أن يسلك علماء المسلمين مسلك القرآن في الرد على المخالفين، وكلما جدد المخالفون وجوه الطعن جدد المسلمون طرق الرد.
3. كاد ينتهي العصر الأول في إيمان خالص من الجدل، ولما فرغ المسلمون من الفتح واستقروا أخذوا ينظرون ويبحثون، فاستتبع هذا اختلاف وجهة نظرهم فاختلفت الآراء والمذاهب.
4. خلافهم في المسائل السياسية كان سبباً في الخلاف الديني. و أصبحت الأحزاب فرقاً دينية لها رأيها: فحزب "علي" تكون منه الشيعة، ومن لم يرض بعلي تكون منهم الخوارج، ومن كره خلاف المسلمين كون فرقة المرجئة وهكذا.
العوامل الخارجية:
1. كثير ممن دخل الإسلام بعد الفتح كان من ديانات مختلفة يهودية ونصرانية ومجوسية وصابئة وبراهمة وغيرها وقد أظهروا آراء دياناتهم القديمة في لباس دينهم الجديد.
2. جعلت الفرق الإسلامية الأولى وخاصة المعتزلة همها الأول الدفاع عن الدين، والرد على المخالفين، وكانت البلاد الإسلامية معرضاً لكل الآراء والديانات، يحاول كل فريق تصحيح رأيه وإبطال رأي غيره، وقد تسلحت اليهودية والنصرانية بالفلسفة فدرسها المعتزلة ليستطيعوا الدفاع بسلاح يماثل سلاح المهاجم.
3. حاجة المتكلمين إلى الفلسفة اضطرتهم إلى قراءة الفلسفة اليونانية والنطق والتكلم في شأنها والرد عليها.
المشاكل العقائدية في الواقع الإسلامي:
المطلوب من الفكر العقائدي أن يعالج المشاكل التي تحدث في الأمة متعلقة بالأسس العقائدية العامة دون الفروع الجزئية من التطبيقات السلوكية التي تهتم بها ألوان أخرى من الفكر، ومن ثمة تكون مهمته ذات طابع أصولي كلي. وذلك هو المبرر الذي يدرج به ضمن الفكر الفلسفي بالمعنى العام. والمتأمل في الوضع العقائدي الراهن للمسلمين يجد أن المشاكل التي تنتابه ترجع في معرض تعددها وتنوعها إلى مشكلتين رئيسيتين تولدتا من عهد الانحطاط الذي تجمد فيه الفكر الإسلامي وانفصل عن مجريات الواقع، ومن التحدي الثقافي و الحضاري الغربي الذي واجه الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمن. أما المشكلة الأولى فهي الانفصال أو شبه الانفصال الذي وقع بين المرجعية العقدية وبين المظاهر التطبيقية في مختلف وجوه الحياة. فالدين الإسلامي هو عقيدة تتفرع عنها شريعة تشمل كل أوجه التصرف الإنساني بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك متفرعاً من أصل من أصول العقيدة التي تستجمعها حقائق أساسية ثلاث: الألوهية، والنبوة، والبعث، بحيث يكون كل منشط من مناشط المسلم، وكل اجتهاد من اجتهاداته في شؤون الحياة مستمداً من أصول العقيدة، جارياً بحسب مقتضياتها.
ولكن مجريات الواقع الإسلامي خلال عهد التراجع الحضاري أفضت إلى تراخ في الصلة بين أصول العقيدة وبين مناشط الحياة المختلفة، قلم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في تلقائية ووضوح في مرجعيتها العقدية. وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية غايتها في ذاتها، وضعف الشعور بغايتها السلوكية. وقد أدى هذا الوضع إلى ما يشبه الانفصال بين الاجتهادات الفرعية و بين مرجعيتها العقدية. وخذ إليك مثلاً في ذلك حقيقة التوحيد التي كانت في عهود الازدهار الإسلامي تطبع حياة المسلمين كلها تشريعاً وآداباً وفنوناً و عمارة، ثم أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين إلى بعد واحد تجريدي هو وحدانية الذات الإلهية، وتقلص أثرها في مناحي الحياة العملية.
وقد استفحل هذا الوضع لما انفتح المسلمون على الحضارة الغربية بمنجزاتها الباهرة، وجعلوا يقتبسون منها ويقلدون فيها خبط عشواء على غير هدى من مرجعية عقدية ترشد ذلك الاقتباس، وتجعله في إطار من الدين. وقد ظهر ذلك فيما اقتبس المسلمون من آداب وفنون وعلوم إنسانية وطرز عمرانية، حتى إنه ليمكن القول إن الواقع الإسلامي اليوم يجري على غير هدى عقدي، ويصدر على غير قاعدة إيديولوجية إسلامية واضحة.
وأما المشكلة الثانية فهي الغزو الإيديولوجي الغربي الذي استهدف منذ زمن العقيدة الإسلامية أساساً، ومظاهرها السلوكية في مختلف مظاهر الحياة. وقد كان هذا الغزو الإيديولوجي شبيهاً بالغزو الإيديولوجي الذي حدث في القرن الثاني من قبل أهل المذاهب و الأديان إلا أنه صادف من المسلمين ضعفاً حضارياً و فكرياً، واستعدى عليهم بمنجزات العلم، و قوة الحضارة فإذا به غزو شامل للمنظومة الإسلامية كلها، تسخر فيه الفلسفة و العلم والإعلام جميعاً، بل و التكنولوجيا المادية أيضا.
و قد أحدث هذا الغزو الإيديولوجي أثره البين في حياة المسلمين ليس على مستوى السلوك فحسب، ولكن على مستوى الاعتقاد أيضاً، وهو ما يبدو في المذهبية المادية التي تسربت إلى الشباب الإسلامي، وفي العلماني التي أصبحت مذهباً لكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي، وهي التي تسيطر على الحظوظ التربوية والاقتصادية والثقافية والسياسية للأمة، فانطبعت هذه المظاهر كلها بطابع الإيديولوجيا الغربية إن قليلاً أو كثيراً.
وبين هاتين المشكلتين تضافر وتآزر بحيث يهيّئ ضعف الرابطة بين الحياة العملية للمسلمين و بين مرجعيتهم العقدية للتأثير الإيديولوجي الغربي، كما أن هذا التأثير الإيديولوجي يوسع الشقة بين تلك الحياة ومرجعيتها العقدية سواء على المستوى الفكري الثقافي أو على المستوى السلوكي العام، فإذا بواقع المسلمين يجري على غير إيديولوجية إسلامية بينة، بل إن تلك الإيديولوجية في صياغتها الفلسفية التي تستطيع بها أن تواجه التحدي، وتهدي الحياة تكاد تكون غائبة.
الخاتمــة:
و من كل ما تقدم يمكننا ان نستنتج أن الفلسفة الإسلامية تشكلت، وصارت واحدة من الإبداعات المعرفية للحضارة الإسلامية، و انخرطت في دراستها وتدريسها والتأليف فيها قطاع كبير من العلماء المسلمين، منذ نهاية القرن الهجري الأول، وبلغت ذلك ذروتها في القرن الرابع، وصار تنوع الأقوال في الفلسفة الإسلامية هو الأساس لوجود الفرق و لاتجاهات المختلفة في الإسلام، فميلاد أية فرقة، ونموها، وتأثيرها في مسار الحياة الإسلامية، بات يتوقّف على بنائها آراء و تصورات مستدلة في القضايا العقائدية. و لهذا عملت الفرق التي ظهرت، ببواعث سياسية على صياغة فهم عقائدي خاص بها، وشدّدت على أفكار محدّدة، استندت إليها كمرجعية في سلوكها السياسي. أما الجماعات التي أخفقت في تكوين منظومة عقائدية، تصدر عنها مواقفها السياسية، فإنها انطفأت باكراً، وإن خطف وهجها الأبصار عند ظهورها.