شاع في الثقافة السائدة معتقد غير منهجي، بأن تفوق اليابان بدأ بعد إسقاط أمريكا للقنبلة النووية على هيروشيما ثم ناكازاكي. وقصة اختراع القنبلة النووية هي التي ستكشف لنا قصة الصراع على التفوق بين اليابان وأمريكا.
لم تكن أمريكا قبل الحرب العالمية دولة سيادية، كانت اليابان في قمة تفوقها العلمي والعسكري والاقتصادي حينذاك، غير أنها اختارت الطريق الخطأ مع دول المحور النازية والفاشستية حبا في القوة، ما كانت تفتقده في ذلك التفوق هو المنجز الغربي العظيم في اختراع الآلة، والذي مثل سرا لا يذاع.
عمر اليابان يصل إلى الألف عام، بدأت نهضتها الحقيقية مع ثورة الميجي في عام 1886م ، من هنا بدأت إقلاعها الحضاري، ومن هنا يجب أن نفهم سر التفوق الياباني، وهي ثورة بعكس الثورات العربية العسكرية التي ابتلي بها العالم العربي بقيادة الضباط الأحرار والبعثيين ومنظريهم.
كانت القيم الأساسية لتلك الثورة الخالدة تتمثل في ثلاثة أهداف :
- محو الأمية الأبجدية.
- الحفاظ على اللغة الأم مع برنامج علمي ضخم قائم على الترجمة.
- تشجيع البحث العلمي.
هكذا وبكل بساطة دون شعارات قومجية أو تعلق بماضي لا وجود له. ومع ذلك لم تتخلى اليابان عن القوة العسكرية إيمانا منها بأنها الطريق إلى القوة، وعملا بالحكمة اليابانية الداعية إلى : (السيف، الدرر، المرايا). تلك هي الثقافة التي حوت في عمقها إمكانية النهوض الحضاري، حتى فجعتها القنبلة النووية فقررت الاستسلام العسكري بعد حصولها على الثمرة الحضارية.
في تلك الظروف وقبيل اختراع القنبلة النووية، ومع أحداث الحرب العاصفة بين دول المحور ودول التحالف، عصفت اليابان بميناء بيرل هاربر الأمريكي فسوته أرضا وعثت به فسادا. أمريكا الضعيفة الراغبة بالقوة، خرج وزيرها يصرخ نحن لسنا ضعفاء وسنرد.
لم تكن أمريكا في تلك الأوقات تملك ما يكفيها من العتاد والتسليح، كانت مهزوزة لا تملك إلا الإرادة، وبحاجة لدول أوربية مثل فرنسا وانجلترا تحمي هذه الأمة الناشئة في العتاد والعلم.
فكان ردها على بيرل هاربر بطائرات لا تستطيع بلوغ المدى الكافي، تعرضت بدورها للقصف الياباني بعد خسائر محدودة في الجنود اليابانيين، فأسقطت وقتل عدد من جنوها وفر الآخرون.
وفي المدى البعيد، لا زال الأمريكيين يقاومون ضعفهم ويثابرون على حل مشكلاتهم، والعمل بهدوء وروية وبصمت. بدأت المسألة بفكرة ألمانية لاختراع القنبلة النووية، كان عدد من علماء ألمانيا فروا من بطش هتلر وعلى رأسهم النمساوي ألبرت آينشتاين خسرهم الألمانيين لصالح أمريكا، تلك الفكرة كانت قد أصابت القادة الأمريكيين بالرعب!
كان أبو فكرة اختراع القنبلة النووية الأمريكية هو ألبرت آينشتاين، عندما قام بتحذير الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في عام 1939م، وصف فيها الطاقة المدمرة التي تنتج عن الانشطار الذري، وعبر فيها عن قلقه الشديد، وقلق زملاءه العلماء من إمكانية نجاح النازيين بصنع القنبلة النووية.
قرر أحد العسكريين البحث مع عدد من العلماء للتأكد من صحة الفرضية الفيزيائية التي قال بها آينشتاين. وبالطبيعة الحالمة للعلماء، أصروا على صدق تلك النظرية البالغة التعقيد. قرروا بعدها البحث عن تمويل المشروع المكلف الذي أطلق عليه مشروع مانهاتن، وكان الدافع المحرك لتمويل المشروع هو ذلك الرعب من إمكانية امتلاك هتلر لذلك السلاح الغامض.
تقرر تكوين لجنة من العلماء يديرها ضابط عسكري، تعرضوا للعزل في أحد الصحاري، فحرموا من الاتصال بالعالم لما يقارب العام وهو الوقت المحدد لإتمام المشروع، كان طويلا ومكلفا. ولكن الطبيعة المتمردة للعلماء تمنعت في البدء على نظام العزل العسكري، فكانت البداية لإدارتهم من قبل من أطلق عليه أبو القنبلة النووية، العالم أوبنهايمر.
لم يكن آينشتاين معهم، غير أنه أهم من ساهم بنظرياته وتحليلاته العلمية. أثناء ذلك الانهماك والعمل المتواصل، وصلت معلومات إستخباراتية مؤكدة، بأن علماء هتلر عجزوا عن اختراع القنبلة النووية فألغوا المشروع للأبد.
كان للأمريكيين التوقف، ولكن الغرور والرغبة بامتلاك القوة العسكرية كانت أقوى، استطاع الأمريكيين بعد عمل متواصل من التجارب وضحية واحدة لأحد العلماء نتيجة الإشعاع النووي، من اختراع القنبلة النووية.
كان كل العلماء يعملون بلهفة ومثابرة بل وحبا للخير خوفا من شياطين هتلر، وبذلك لم يتم تبليغهم بهذه الملعومات الإستخباراتية.
في ذلك الوقت كانت أمريكا قد تعرضت قبل أشهر، للقصف في ميناء بيرل هاربر، حينئذ قررت أمريكا مهاجمة اليابان.
كان يوم تاريخيا للشر الإنساني.
الهدف الأمريكي هو تركيع اليابان، تم اختيار هيروشيما في عام 1945، وتم إلقاء قنبلة الولد الصغير، لم تكتفي أمريكا بالمأساة الفاجعة والتي كانت كافة لتحقيق أهدافهم في هزيمة اليابان، بل قامت بعد يومين بإلقاء الولد الكبير على ناكازاكي، لتعزز قوتها وإصرارها على البطش.
عدد الضحايا كان 120.000 جراء التأثيرات الناجمة من الانفجار، وأعداد أكثر لم يتم إحصاءها كانت ضحية للإشعاع النووي، 95% من الضحايا كانوا مدنيين أبرياء.
لم تدرك اليابان ما الذي جرى سوى بعد إعلان الجيش الأمريكي عن قنبلته النووية، وبعد أسبوع واحد من التفجير أعلنت اليابان بصورة مذلة في 15 أغسطس استسلامها دون قيد أو شرط.
بعد ذلك الموت الفاجع والاستسلام المهين، قررت اليابان أن تنهض بصورة جديدة، اجتمع علماءها وتباحثوا، وقرروا العمل بمشاريع نهضوية كبيرة، كان على رأسها إرسال مبتعثين لكل دول العالم، غير أنه كانت لديهم تساؤلات علمية.
كانت لديهم تساؤلات!
كانت لديهم تساؤلات!
لم تكن تلك النهضة مرتبطة بخطة تنموية اقتصادية فقط بل كان عمادها التساؤل العلمي الحر والغير مقيدة بمذهبيات وفتاوى ضيقة لا تحب الوجود. ذهبت رحلة المبتعثين الأولى، ولكن أفرادها عادوا خاليين الوفاض.
بهرتهم الثقافة الغربية، وأغاني الجاز والبيتلز، فقام الإمبراطور الياباني بإحضارهم في الساحة العامة وأحرقهم.
أعادت اليابان دراسة أخطاءها في خطة الابتعاث، واستطاعوا بعد ذلك (سرقة) الاكتشافات العلمية، كان الطالب الياباني يدرس في الليل ويعمل في النهار بغسل الأطباق أو العمل في المقاهي.
عاد عدد كبير من الطلبة اليابانيين باكتشافات مذهلة، جعلت من اليابان أعجوبة العالم، وهي اليوم الدولة الأولى حضاريا، لا يوجد فيها مواطن أمي واحد، ويعملون حاليا على محاربة النسبة القليلة المتبقية من الأمية الرقمية.
أما أمريكا فقد بدأت وجودها في القارة بأوربيين مهاجرين من حرب المائة عام، ثم استمرت الهجرات لذلك العالم الجديد، كان أول من دخل أوربا بشكل رسمي هو كولمبوس عبر البحارة العرب، لم يكن مكتشفا لأمريكا كما كان يزور التاريخ الغربي. بل كان تاجرا للعبيد وخادما للملكة الإسبانية، بدأت بعدها بعقود أكبر المجازر العرقية للقضاء على السكان الأصليين الهمج.
عاشت أمريكا دائما كدولة ناشئة، تعرف قدر نفسها، ولكنها تملك الإرادة، فنهضت مع مرور الوقت، وقدست البحث العلمي ، ونهضت بالعمال، وقضت على الأمية، وشاركت في البناء الإنساني بدون أي قيود ثقافية وأوهام وإدعاءات ودون تصورات شمولية وحكام عسكريين يتحكمون بكل شيء لا يملكون أي مشروع حضاري حقيقي وفاعل.
كان الثمن كبيرا للإقلاع الحضاري الأمريكي، بالفتن المروعة والمتتابعة، القتل والجرائم والحروب والعصابات والتفكك الاجتماعي، كلها أحداث أساسية عاشتها أمريكية كجزء من التكوين الثقافي.
نضهت أمريكا بكل ما فيها من إجرام وهمجية وصراعات، نهضت لأنها امتلكت إرادة التفكير الذي لا تحده حدود، الكل يتساءل والكل يشارك في البناء الثقافي، فتعلمت من أوربا وتبنت علماءها وعرفت قدر نفسها.
بهذه المقدمة الموجزة لتاريخ التفوق الياباني والأمريكي، أردت أن أضع تمهيدا للأسباب التي ساعدت على الإقلاع الحضاري لتلك الأمتين :
أولا : الاتجاه للعلم :
- القضاء على الأمية الأبجدية
- الحفاظ على اللغة بشرط الترجمة المنهجية
- تثوير البحث العلمي.
ثانيا : الإتجاه للثروة :
- بناء اقتصاد المعرفة
- إدارة الاقتصاد الريعي بكفاءة
ثالثا : الإتجاه للقوة :
- القوة الفردية الرياضية للشباب.
- القوة الفكرية والثقة بالنفس.
- القوة العسكرية للدولة.
بذلك أسست رؤيتي التي بلورتها قانونا للمجد الحضاري، إنها الدعوة التي يجب أن تتبلور أفكارنا حول مركزيتها : العلم . الثروة . القوة.
نستطيع أن ننهض، العملية سهلة وإمكانياتنا مذهلة، نحن فقط بحاجة للأهداف والتخطيط والكفاح، وبث التساؤلات العلمية والثقافية، تحت مظلة إدارة مستنيرة.