نجح صلاح الدين الأيوبي في تحرير القدس في 27 رجب 583هـ/ 2 أكتوبر 1187م، أي بعد 88 سنة ميلادية من سقوطها في أيدي الصليبيين، وبعد أيام يكون قد مضى على سقوط القدس في أيدي الصليبيين الجدد 'الإنجليز' ثم في أيدي اليهود من بعدهم 88 سنة ميلادية، إذ استولى عليها الإنجليز في 9 ديسمبر 1917م، وقال قائدهم اللنبي وقتها في خطابه: 'اليوم انتهت الحروب الصليبية'، أما القائد الفرنسي الذي احتل سوريا فقد توجه إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: 'ها قد عدنا يا صلاح الدين'.
والسؤال الذي يجب أن يطرح دائمًا ويشغل أذهان وأبحاث القادة والعلماء والمفكرين في زماننا، ويُجاب عنه بأمانة وموضوعية هو: لماذا نجح صلاح الدين في تحرير القدس بالرغم من مرور 88 سنة على احتلالها، وفشل قادة أمتنا في تحقيق ذلك، بل صار اليهود بعد 88 سنة من اغتصابها أكثر إحكامًا لقبضتهم عليها؟!
إن الإجابة الكاملة الأمينة على هذا السؤال تتطلب دراسات طويلة معمقة، لكنني سأحاول اختصارها بالنقاط الموجزة الآتية: أولاً: لأن القدس الطاهرة المباركة المقدسة لن تحرر إلا على أيدي المجاهدين الطاهرين الربانيين الأتقياء الذين يعرفون قدرها ومكانتها، فيبذلون من أجلها أموالهم وأرواحهم وأوقاتهم وجهودهم، وقد اتصف صلاح الدين بهذه الصفات؛ إذ تربى منذ طفولته على التقوى وحب الجهاد، حيث ولد في بيت مجاهد سنة 532هـ/ 1138م بقلعة تكريت أثناء ولاية والده عليها، ثم انتقل مع أسرته إلى الموصل ثم إلى بعلبك التي تولاها أبوه بتكليف من نور الدين محمود، وفيها تعلم القرآن والحديث والفقه والنحو والتاريخ والأدب, إضافة إلى الفروسية وفنون القتال. وقد وصفه أحد المؤرخين المعاصرين له بأنه 'حسن العقيدة، كثير الذكر، شديد المواظبة على صلاة الجماعة، ويواظب على السنن والنوافل، ويقوم الليل، وكان يحب سماع القرآن، وينتقي إمامه، وكان رقيق القلب، خاشع الدمعة، إذا سمع القرآن دمعت عيناه، شديد الرغبة في سماع الحديث، كثير التعظيم لشعائر الله، وكان حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه، عادلاً رءوفًا رحيمًا ناصرًا للضعيف على القوي، كريمًا حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طاهر المجلس لا يُذكر أحد بين يديه إلا بخير، طاهر السمع، طاهر اللسان، طاهر القلم، فما كتب إيذاءً لمسلم قط، وكان شجاعًا شديد البأس، قال يومًا وهو قرب عكا: 'في نفسي أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية السواحل قسمت البلاد وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت'، وقد مات رحمه الله ولم يكن لديه من الأموال ما تجب فيه الزكاة، فقد استنفدت صدقة النفل جميع ما ملكه، ولم يخلف في خزائنه من الذهب إلا 47 درهمًا ناصرية، ودينارًا واحدًا ذهبيًا، ولم يخلف ملكًا ولا دارًا ولا عقارًا ولا مزرعة، وقد عزم على الحج في السنة التي توفي فيها، ولكنه تعوق بسبب ضيق ذات اليد وضيق الوقت.
ثانيًا: لأنه حدد هدفه منذ طفولته، وجعله واضحًا سامقًا، وهو تحرير المسجد الأقصى، وأيقن أن هدفه لن يتحقق إلا بالإعداد والجهاد، فدعا إليه وحرض عليه، وطلب من كبار وزرائه وكتابه أن يؤلفوا له كتبًا عدة في موضوع الجهاد، فيبينوا فضائله وآدابه، يقول العماد الأصفهاني: 'وكنت قد جمعت له كتابًا في الجهاد بدمشق'، ويقول القاضي الفاضل: 'وأنا ممن جمع له في الجهاد كتابًا جمعت فيه آدابه وكل آية وردت فيه وكل حديث روي فيه'، وكان يحث الأمراء التابعين له على الجهاد، ويرسل الرسل إلى الحكام غير التابعين له ليدعوهم إلى التمسك بالجهاد، ومن ذلك سفارته إلى دولة الموحدين بالمغرب لاستنفارهم بعد سقوط عكا في أيدي الصليبيين سنة 587هـ/ 1191م. كما طالب العلماء بالقيام بواجبهم في دعوة الناس وترغيبهم في الجهاد، وكان حريصًا على شن المعارك في أيام الجمع، لا سيما في أوقات صلاة الجمعة، تبركًا بدعاء الخطباء على المنابر. وكان الشعار الذي ينادي به عندما يشتد القتال في ساح الوغى هو: 'يا للإسلام'، وكثيرًا ما يدعو جنوده قبل أن تبدأ المعركة إلى البيعة على الجهاد والاستشهاد.
ثالثاً: لأنه لم ينسَ الجرائم والمجازر التي ارتكبها الأعداء ضد المسلمين، بل جعل منها وقوداً يشعل حماسه وحماس جنوده، وكان دائمًا يهب لنصرة المسلمين وينتقم من المعتدين، وبالرغم من أنه ولد بعد أربعين سنة من المذبحة الرهيبة التي ارتكبها الصليبيون في المسجد الأقصى، حيث قتلوا غدرًا أكثر من سبعين ألفًا من المسلمين بينهم كثير من الأئمة والفقهاء والقراء والعباد، إلا أنه لم ينسها، وأصر على دخول القدس عنوة والانتقام للمسمين الذين غدر بهم قبل 88 سنة، ولم يعطهم الأمان الذي طلبوه إلا بعد أن هددوا بحرق المسجد الأقصى وكنائسهم وأموالهم وقتل خمسة آلاف أسير مسلم كانوا في أيديهم، ثم الخروج للقتال حتى الموت. وبعد الانتصار الكبير الذي حققه المسلمون في معركة حطين، حيث قتلوا ثلاثين ألف صليبي وأسروا ثلاثين ألفًا، وكان بين الأسرى ملوك وأمراء الصليبيين، أصر صلاح الدين على ذبح أرناط حاكم الكرك بيده انتقامًا للحجاج المسلمين الذين قتلهم أرناط، وللنبي محمد – صلى الله عليه وسلم - الذي شتمه ذلك الصليبي الحاقد.
رابعًا: لأنه علم أن الأمة لن تحرر القدس وتطرد الصليبيين من بلاد المسلمين إلا إذا توحدت تحت عقيدة واحدة وخلافة واحدة وقيادة واحدة، فقضى بذكاء ودون إراقة دماء على المذهب الشيعي في مصر، وعلى الخلافة الفاطمية الشيعية التي كانت كثيرًا ما تتآمر مع الصليبيين، ضد المسلمين السنة، وسبق أن عرضت على الصليبيين منذ أن بدءوا غزوهم لبلاد الشام أن تتنازل لهم عن القدس مقابل تركهم في مصر وبعض مناطق الشام، وقد أدى تخاذلهم إلى سقوط القدس سنة 492هـ/ 1099م، وكانت وقتها تحت حكمهم، وقد عينوا عليها واليًا يدعى افتخار الدولة. كما خاض قتالاً ضد الأمراء الذين أصروا على فرقة الأمة، وتحالفوا مع الصليبيين للمحافظة على كراسيهم، وتمكن من توحيد مصر والشام تحت حكمه، فواجه الصليبيين بأمة واحدة وعقيدة واحدة وهزمهم.
تلكم بعض الأسباب التي مكنت المسلمين من تحرير القدس وفلسطين تحت قيادة صلاح الدين؛ والأمة وقادتها مدعوون لدراسة هذه التجربة والإفادة منها في معركة تحرير القدس من أيدي المغتصبين اليهود، وعليهم أن يعلموا أن الله قد وعدهم بهذا التحرير في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً}، لكن هذا الوعد لن يتحقق مهما طال الزمن إلا إذا أخذنا بأسباب النصر وسرنا في الطريق الذي سار فيه عمر بن الخطاب ففتحها، وسلكه صلاح الدين فحررها.