الأزمة التي نشبت مؤخرا بين مصر والولايات المتحدة حول عمل منظمات المجتمع المدني غير الشرعية ، وتهديد الكونجرس بوقف المعونات العسكرية والاقتصادية لمصر ، يفتح الباب واسعا للتساؤل حول طبيعة ودور المعونات الأمريكية في العالم ، وهل كانت هذه المعونات لخدمة البلدان التي قدمت إليها أم أنها كانت أداة من أدوات السياسة الأمريكية للسيطرة علي بلدان كثيرة في العالم وخاصة في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية .
يشير المؤرخ المصري الكبير عاصم الدسوقي إلي أن أول مقابل طلبته الولايات المتحدة الأمريكية من مصر مقابل تقديم معونات لها ، كان نسخة من كل مطبوعة تصدر في مصر ، ويقول الدسوقي أنه الدلالة هنا ليست خافية ، فالمطبوعات التي تصدر في أي بلد هي مرآة عاكسة لكل ما يدور في هذا البلد في كافة المجالات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ، ومن هنا نعرف أن الولايات المتحدة بدأت مبكرا تهتم بمعرفة كل شئ عن مصر .
وتعد المساعدات الاقتصادية الأمريكية إلى الخارج واحدة من الأدوات الفعالة لتحقيق أهداف السياسية الخارجية الأمريكية ومنذ خرجت الولايات المتحدة إلى الوجود كقوة عالمية كبرى بعد الحرب العالمية الثانية احتلت المساعدات إلى الخارج دورا بالغ الحيوية كأداة لتحقيق هدف أساسى يتم تعريفه على المستوى الرسمى بأنه تعزيز الأمن القومى للولايات المتحدة الأمريكية ولما كانت الولايات المتحدة قوة كبرى وزعيمة للعالم الحر الآن فإن حدود أمنها القومى تتسع لتغطى العالم بأسره، ومن ثم فإن تعزيز هذا الأمن يتطلب الاحتفاظ بشبكة مترابطة من العلاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية والأيديولوجية مع الخارج وذلك من خلال أطر مؤسسية كالأحلاف أو نصوص تعاهدية ثنائية لضمان المصالح العليا للولايات المتحدة.
ومنذ البداية فإن العامل المسيطر والمحرك لنظرية الأمن القومى للولايات المتحدة هو مواجهة النظام الاشتراكى وعلى رأسه الاتحاد السوفيتى وتعبئة كافة القوى لمواجهة ما يسمى بالتوسع والغزو الأحمر ومن ثم فقد كانت الحرب الباردة وسياسات العداء للاتحاد السوفيتى هى المحور الرئيسى الذى تقوم عليه السياسات الخارجية الأمريكية طوال الفترة الممتدة من أوائل الخمسينات حتى أوائل السبعينات حينما بدأت تتغلغل إلى دهاليز السياسة الخارجية الأمريكية وقاموسها تعبيرات مثل الوفاق والتعاون بين الشرق والغرب وهى المصطلحات التى تعبر عن حالة جيدة فى العلاقات بين القوتين الأعظم نستطيع القول بأن هناك علاقة مؤكدة بين الاتجاه العام للسياسة الخارجية الأمريكية وسياسات المعونة أو المساعدات الاقتصادية للخارج بوصف هذه الأخيرة جزءا لا يتجزأ من بنيان السياسات الخارجية وأحد أدوات تحقيق أهدافها الاستراتيجية وكان من الطبيعى إذن أن تنعكس التطورات فى مجرى السياسة الخارجية الأمريكية على سياسات المعونة والمساعدات الاقتصادية الخارجية ففى فترة الحرب الباردة وهى الفترة الممتدة حتى أوائل السبعينات كانت المساعدات الاقتصادية الأمريكية إلى الخارج تتنقل أساسا من خلال العلاقات الثنائية وكانت اتفاقات المعونة هى الصورة البارزة لتدفق المساعدات الأمريكية إلى الخارج فى هذه الفترة وكانت هذه المساعدات تتخذ شكل المعونات الغذائية والقروض على وجه العموم أما فى الفترة الثانية وهى التى تبدأ من أوائل السبعينات واتباع سياسية الانفراج أو الوفاق فإنه يلاحظ زيادة الاهتمام الأمريكى بتوفير المساعدات عن طريق العلاقات متعددة الأطراف ومن خلال مؤسسات التمويل الدولية وعلى وجه الخصوص البنك الدولى وصندوق النقد الدولى، وبينما نلاحظ فى المرحلة الأولى أنه كانت هناك شروط أمريكية واضحة لإعطاء المعونات إلى الدول النامية من خلال الاتفاقات الثنائية فإن الفترة الثانية شهدت تحولا فى طريقة إملاء هذه الشروط حيث أصبحت المعونة تتقرر من قبل البنك الدولى وصندوق النقد الدولى اللذين تسيطر الولايات المتحدة عليهما عليا سواء من خلال رأس المال أو عملية اتخاذ القرارات عن طريق قوتها التصويتية وسيطرة موظفيها إن التطورات التى حدثت فى طبيعة النظام الاقتصادى العامة وهيكل العلاقات السياسية الدولية كانت تفرض على الولايات المتحدة ضرورة اللجوء إلى تلك الأشكال من الوصاية الدولية متعددة الأطراف بحيث تتحقق فى النهاية أهدف الأمن القومى الأمريكى ودون أن يظهر دور الولايات المتحدة كدولة كبرى دورا سافرا فى هذه الوصاية.
الدولار السياسى: وخلال المرحلتين على السواء كرست السياسة الخارجية الأمريكية جهودها على استخدام الدولار استخداما سياسيا فى المعونات الخارجية وهو ما أطلق عليه الاقتصادى الأمريكى سيتوارت سميث "الدولار السياسى"، حيث وجه انتقادات قاسية لسياسة المساعدات الاقتصادية الأمريكية بوصفها لونا من ألوان السيطرة الجديدة لخدمة الأهداف الأمريكية دون مراعاة المصالح الوطنية للدول المتلقية للمساعدات فالدولار الأميركى لم يتخل عن جنسيته السياسية من خلال المساعدات الأمريكية إلى الخارج.
الطابع التركيزى: وعلى مدار المرحلتين أيضا مرحلة الاعتماد على المساعدات الثنائية ثم مرحلة الاعتماد على المساعدات متعددة الأطراف كانت إحدى السمات البارزة الأخرى إلى جانب الدولار السياسى تتمثل فى الطابع التركيزى الشديد للمساعدات الخارجية الأمريكية إذ طبقنا لأولويات الأمن القومى الأمريكى كانت نسبة عالية من المساعدات تذهب إلى عدد محدود من الدول فى العالم الثالث وكانت هذه الدول تتميز غاليا بسيرة أنظمة ديكتاتورية عسكرية معادية للاتحاد السوفيتى ومتعاونة إلى أقصى حد سياسيا وعسكريا وأيديولوجيا مع الولايات المتحدة والعالم الغربى وفى المنطقة العربية كانت إسرائيل هى المثل السافر على سيطرة هذه السمة التركيزية للمساعدات الخارجية الأمريكية واشتراطها أوضاع محددة لمنح هذه المساعدات.
الترابط العسكرى ـ الاقتصادى: ومنذ بروز الدور العالمى للولايات المتحدة الأمريكية كقوة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية كان هناك ترابط وثيق بين المساعدات الاقتصادية والمساعدات العسكرية فنادرا ما كانت هناك مساعدات اقتصادية دون أن ترتبط بمساعدات عسكرية ويعكس هذا الارتباط طابع الاستراتيجية الأمريكية فى تعبئة وتقوية أنظمة معينة معادية للسوفيت بشكل خاص وخلال سنوات الخمسينات يقدر بنحو ثلثى المساعدات الخارجية الأمريكية كانت عبارة عن مساعدات عسكرية أما المساعدات الاقتصادية فقد كانت تتمثل فى الثلث المتبقى غير أن سنوات الستينات شهدت تراجعا فى نسبة المساعدات العسكرية إلى 40% فقط من إجمالى المساعدات الأمريكية وكان ذلك راجعا إلى الإخفاق المتزايد للسياسة الخارجية الأمريكية فى الخمسينات ونتيجة لسياسة كيندى التى كانت تقول بضرورة الاحتفاظ بموطئ قدم عند الباب وهو ما كان يفرض بالضرورة الاحتفاظ بأرقام للمساعدات الاقتصادية ولو بشكل رمزى مع أكبر عدد من الدول ذات المواقع الهامة استراتيجيا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا فى العالم الثالث وقد انتهت هذه السياسة بنهاية الستينات حيث قفزت نسبة المساعدات العسكرية مرة أخرى إلى نحو ثلثى إجمالى المساعدات الخارجية الأمريكية وذلك على الرغم من إعلان سياسة الانفراج بين القطبين الأعظم.
حماية وتشجيع الاستثمارات الأمريكية: وإلى جانب الدور الذى تقوم به المساعدات الخارجية الأمريكية فى تحقيق الأهداف الاستراتيجية العليا للولايات المتحدة فإن هذه المساعدات تقوم بدور هام فى ضمان وتشجيع الاستثمارات الأمريكية فى الخارج بما يفتح الباب دائما لفرص كبيرة من النمو والتوسع أمام الاقتصاد الأمريكى ورجال الأعمال الأجانب وتقوم المساعدات الأمريكية بأداء هذا الدور على مستويين مختلفين هما: المستوى الأول: يتمثل فى ضمان أسواق للصادرات الأمريكية وخصوصا الصادرات العسكرية وفائض الغذاء الأمريكى وكلاهما يتم استخدامه لأغراض سياسية إذ أن التسهيلات الائتمانية والقروض الأمريكية إنما تمنح لشراء بضائع أمريكية فى الأساس يتم شحنها أيضا على وسائل نقل أمريكية وتستفيد من ورائها شبكة واسعة من رجال الأعمال وأصحاب الخبرة والفنيين من الولايات المتحدة أما المستوى الثانى، فإنه يتمثل فى استخدام المساعدات كرشوة للدول المتلقية من أجل أن تصدر تشريعات وقوانين لضمان وتأمين الاستثمارات الأجنبية، وإعطاء حوافز لرأس المال الأجنبى الذى يعمل فى أراضيها، بما يخلق فرص أعمال مضمونة أمام قطاع الأعمال فى الولايات المتحدة ويضمن بذلك مزيدا من التحويلات الخارجية إلى الاقتصاد الأمريكى، فى صورة موارد وأرباح وفوائد، ترفع مستوى الرفاهية والاتفاق العسكرى على السواء فى الدولة الأولى داخل العالم الرأسمالى.
دعم القطاع الخاص المحلى: إن أهداف المساعدات الاقتصادية الخارجية للولايات المتحدة هو التأثير فى هياكل الإنتاج والهياكل المؤسسية فى اقتصاديات البلدان المتلقية للمساعدة من أجل أحداث تغييرات تشجع على بناء توليفة اقتصادية اجتماعية مستقرة على أرضيه من النمو الرأسمالى فى إطار التبعية للنظام الرأسمالى الدولى وتوجه المعونة الأمريكية فى الأساس نحو البنية التحتية اللازمة للاستثمار الخاص، خصوصا فى القطاعات الأولية مثل الزراعة والصيد والصناعات الاستخراجية، أو صناعات تجهيز منتجات هذه القطاعات ولا تهتم المساعدات الاقتصادية الأمريكية بإجراء تحويلات هيكلية أساسية بهدف تحقيق تنمية اقتصادية ترتكز على تنويع الإنتاج وتوزيع عادل للدخل، وعلاقات متكافئة مع العالم الخارجى وفى سبيل خدمة مصالح القطاع الخاص المحلى فى الدول المتلقية للمساعدات الأمريكية، فإنه عادة ما تتم ضغوط عديد لتقليص دور الدولى فى الاقتصاد وتقليص حجم القطاع العام، وإتاحة المزيد من الحوافز للاستثمار الفردى ومزيد من الضمانات لنشاط رجال الأعمال سواء فى التجارة، أو فى مجالات الإنتاج الأخرى.
المساعدات الأمريكية والعالم العربى: كانت مؤشرات المساعدات الأمريكية إلى دول العالم العربى تعكس بشكل مباشر التوتر فى العلاقات الأمريكية العربية ومراحل الصدام والتصالح ومحاولات التحالف ولم يحدث فى فترة من الفترات منذ بدابة الخمسينات حتى الآن، أن كان هناك إجماع استراتيجى بين الدول العربية على طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، فدائما هناك محاور وصراعات بخصوص تكييف هذه العلاقات وقد ساعد على انعدام الإجماع الاستراتيجى بين الدول العربية على تكييف طبيعة العلاقات مع الولايات المتحدة، السياسة الخارجية الأمريكية، نفسها، تلك السياسة التى شهدت فى طفولتها كسياسة عالمية، إخفاقا شديدا فى إقناع دول المنطقة بأهدافها الاستراتيجية، وأدواتها لتحقيق هذه الأهداف وذلك على الرغم من إدراك الولايات المتحدة أهمية العالم العربى فى استراتيجيتها العالمية وقد ارتبطت المساعدات الأمريكية إلى العالم العربى بمواقف سياسية مباشرة وتطورات إلى الأمام بالقدر الذى كانت فيه الدول العربية تقترب أكثر من الاستراتيجية الأمريكية فى السياسة الخارجية، وبالتالى فقد كانت النظم العربية الراديكالية أقل حظوة بالمساعدات من تلك المحافظة التى دعمتها الولايات المتحدة.
أهمية العالم العربى: بالإضافة إلى موقعه الاستراتيجى، وأهميته الحيوية من الناحية الجيوبولتيكية، فإن العالم العربى يمد إحدى ذراعيه فى شمال وقلب القارة التى تمد العالم الرأسمالى بأكثر من نصف احتياجاته من المعادن بينما يمد الذراع الأخرى إلى تلك الشواطئ الغنية بالبترول ويحتوى باطن أرضه على ما يقرب من نصف الاحتياطى العالمى من الخام وهذه الأهمية الاقتصادية الحاسمة تعززها الأهمية الاستراتيجية والسياسة الناتجة عن كون العالم العربى هو الكتلة الاجتماعية الاقتصادية ذات الثقل الأساسى فى العام الثالث، والذى تمثل منظمات العمل الجماعى فيه جامعة الدول العربية منظمة أوابيك أحد أهم منظمات العمل الجماعى الدولى بين قطبى الأطلنطى ووارسو وقد دفعت هذه العوامل بالولايات المتحدة مبكرا إلى محاولة القيام بدور هام ومؤثر فى المنطقة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية بينما كان العالم العربى ما يزال خاضعا للسيطرة من جانب القوى الاستعمارية القديمة، وقد ارتكز التحرك فى السياسة الخارجية الأمريكية فى المنطقة على صيحة التحذير من الغزو الأحمر، والخطر الشيوعى تلك الصيحة المزعومة التى لم تلق رواجا بين دول المنطقة منذ اللحظة الأولى لإطلاقها وكانت النتيجة المنطقية لبداية التحرك الأمريكى فى المنطقة بهذه الطريقة هو فشل اقتراح إنشاء قيادة للشرق الأوسط، الذى تقدمت به أمريكا فى بداية الخمسينات، وكانت مصر هى القوى التى وقفت وراء إحباط هذا المشروع حين أعلنت تشككها فى الدور الذى يمكن أن تقوم به تركيا، وهى الدولة التى كانت مرشحة للقيام بالدور الأساسى فى قيادة الشرق الأوسط، بدأ فصل طويل من التوتر فى العلاقات بين أمريكا والعالم العربى وكان إعلان هذا الفشل واضحا بعد صفقة الأسلحة المصرية التشيكية وسقوط حلف بغداد، بعد ذلك ومع هذا فقد استمرت السياسة الأمريكية فى علاقاتها بدول المنطقة على أساس أهمية وضرورة الاحتفاظ بمواطئ قدم عند الباب وهذا لم يمنع أن تكون لأمريكا علاقات حميمة مع بعض دول المنطقة مثل العراق أثناء حكم نورى السعيد، أو ليبيا أثناء خمن الملك السنوسى، أو الغرب والسعودية.
المساعدات والقواعد: وحتى منتصف الستينات كانت المساعدات الأمريكية إلى الدول العربية تذهب أساسا إلى تلك الدول التى أقامت الولايات المتحدة فى أراضيها قواعد عسكرية وكذلك تلك الدول التى أيدت تجاوبا كبيرا مع أهداف السياسة الخارجية الأمريكية وكان فى مقدمة الدول العربية التى حصلت على تلك المساعدات المغرب التى أعطت للولايات المتحدة تسهيلات بحرية وجوية، وليبيا حيث كانت توجد قاعدة ـ هويلس ـ الجوية والمملكة العربية السعودية وكان ما يقرب من نصف المساعدات الاقتصادية يتكون أساسا من فائض المحصولات الزراعية الأمريكية، والقروض التجارية التى يقدمها بنك الاستيراد والتصدير الأمريكى أما بالنسبة لمصر، فقد استمر التوتر يحيط العلاقات المصرية الأمريكية حتى أوقفت أمريكا شحنات الحبوب إلى مصر عندما رفض عبد الناصر السماح للولايات المتحدة بالتفتيش على الصناعات والمفاعلات النووية وغيرها فى مصر وفى هذا الوقت أوقفت واشنطن شحنات من الحبوب تصل قيمتها إلى 60 مليون دولار، وهدد مساعد وزير الخارجية الأمريكية بأن بلاده سوف تزود إسرائيل بالمزيد من الأسلحة إذا ما استمرت مصر صفى توجيه دعايتها ضد الولايات المتحدة ثم كان العدوان الإسرائيلى على الدول العربية فى يونيو 1967، بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أدى إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، وتقلصت العلاقات الاقتصادية إلى أدنى حد عودة المساعدات الاقتصادية الأمريكية: أخذ الدفء يسرى فى العلاقات العربية الأمريكية مرة أخرى فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، وكان المجهود الرئيسى الأمريكى مركزا على هدف الاقتراب نحو مصر، بوصفها قوة سياسية وعسكرية ذات تأثير حاسم فى مجريات الأمور العربية، وبوصفها زعيمة المعسكر الراديكالى العربى أيضا وقد ترابط ازدياد اهتمام الولايات المتحدة بالعالم العربى فى أعقاب حرب أكتوبر 1973، مع ظهور شبح أزمة الطاقة فى العالم الرأسمالى وازدياد أهمية منطقة الخليج العربى باعتبار بئر البترول الكبرى التى تغذى العالم الرأسمالى بالطاقة اللازمة لاستمرار اقتصادياته القمح والسلاح وإسرائيل: كان من الواضح، أن المساعدات التى قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية إلى كل من مصر وسوريا فى أعقاب حرب 1973، قد ارتبطت فى الأساس بنتائج اتفاقات فك الاشتباك بين القوات العربية والإسرائيلية، ففى خلال المرحلة المكوكية لهنرى كسينجر وزير الخارجية الأمريكى الأسبق، كان هناك تركيز فى المفاوضات على الربط بين التسوية والاستقرار والرخاء فى المنطقة، على أن تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا رئيسيا فى كل ذلك، انطلاقا من ضرورة إبعاد الاتحاد السوفيتى عن المنطقة وقد ارتبطت المساعدات العسكرية بالمساعدات الاقتصادية، وتميزت المساعدات الاقتصادية إلى الدول العربية، بالاتجاه التركيزى أيضا، وبكافة الخصائص الأخرى التى ذكرناها سابقا ففى خلال السبعينات كانت أهم الدول العربية المتلقية للمعونة الأمريكية هى أربع دول فقط، من بين أكثر من عشرين دولة تنتمى إلى جامعة الدول العربية، وهذه الدول هى:
مصر والمغرب وتونس والسودان وقد ارتبطت المساعدات التى تم تقديمها إلى هذه الدول بالعديد من البرامج والإصلاحات التى طلبها البنك وصندوق النقد الدولى وكانت هذه البرامج والإصلاحات تقوم على أساس تلك السياسات التجارية التى طالبت بها الولايات المتحدة خلال الستينات من خلال مؤتمرات التجارة والتنمية، وهى سياسيات الباب المفتوح، التى عجزت عن إقناع العالم بها، ولكنه بفضل نشاط البنك الدولى وصندوق النقد الدولى تم اجتذاب عدد من الدول العربية، إلى تبنى هذه السياسيات، وعلى رأسها مصر، التى أخذت سياسية الانفتاح الاقتصادية، كسياسة رسمية منذ منتصف السبعينات وقد تميز تقديم المساعدات الأمريكية إلى هذه الدول، بالمزج بين أشكال المساعدات الثنائية، والمساعدات متعددة الأطراف، عن طريق وكالات التمويل الدولية، إذ تم تكوين عدد من الكونسيرتيوم الدولية برئاسة البنك الدولى، لوضع خطط لإنقاذ اقتصاديات هذه البلدان، ومن خلال هذه الكونسيرتيوم، كان يتم حشد عدد كبير من الدول ومؤسسات التمويل والبنوك لتقديم قروض وضمانات إلى الدول المعنية لمساعدتها على الخروج من أزمتها الاقتصادية.
معايير تركز المساعدات: من الواضح أن كلا من مصر وإسرائيل تحظى بالنصيب الأعظم من برنامج المساعدات الخارجية الأمريكية، وتأتى مصر الأولى بين الدول العربية، بينما تأتى إسرائيل الأولى بين دول العالم المتلقية للمساعدات من الولايات المتحدة والمعيار الذى تتجه على أساسه المساعدات الأمريكية إلى التركيز لدى دولة معينة فى العالم العربى، يقوم على التمييز بين تلك الدول التى تتبع السياسات التالية:
1 ـ تمنح الولايات المتحدة قواعد وتسهيلات.
2 ـ تعادى الاتحاد السوفيتى وتعترف بإسرائيل.
3 ـ تعادى الاتحاد السوفيتى فقط.
4 ـ تعلن اتفاقها مع السياسة الأمريكية فى المنطقة وتزداد أهمية الدولة، وبالتالى تزداد نسبة تركيز المساعدات الأمريكية إليها، كلما اقتربت من البندين الأول والثانى، ولكنها تنخفض بعد ذلك، ولهذا فقد تزايدت المساعدات الأمريكية كثيرا إلى مصر، وبلغت فى عام 1981، أكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه عام 1975، حينما كانت تعادى الاتحاد السوفيتى فقط وقد شهدت هذه المساعدات، قفزة كبرى بعد توقيع المعاهدة المصرية الإسرائيلية عام 1979، إذ بلغت أكثر من مليار دولار فى العام التالى، وما تزال قيمتها تتطور بشكل كبير حتى الآن ويقدر أن تبلغ نحو 2 مليار دولار عام 82 وتتميز هذه المساعدات بالسمات الأساسية للمساعدات الخارجية الأمريكية للمساعدات العسكرية والثلث للمساعدات الاقتصادية وارتبطت برامج المساعدات الاقتصادية، بدعم القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية، وتغيير نظم الإدارة فى القطاع العام، بما يتيح حرية أكبر للوحات وزيادة حقوق المساهمين، ودورهم فى الإدارة الاقتصادية كما ارتبطت برامج هذه المساعدات أيضا، بالتقييد بتوصيات البنك وصندوق النقد الدولى.
مستقبل المساعدات الأمريكية: إن المساعدات الأمريكية إلى العالم العرى، تظل بدون شك إحدى أدوات الأمن القومى للولايات المتحدة وسوف تظل هذه المساعدات ترابط بالضرورة بالتوجهات السياسية للدول المتلقية، وخصوصا فيما يتعلق بالموقف من الاتحاد السوفيتى ونظام الإدارة الاقتصادية والاجتماعية، كما أن مستقبل هذه المساعدات يتوقف على مدى التقدم فى تسوية الصراع العربى الإسرائيلى إلا أن متغيرا هاما قد وقع خلال فترة السبعينات، وهو تزايد القوة النفطية والمالية العربية، وزيادة مشاركة الدول العربية فى الشئون الدولية من خلال مجموعة الـ77 ومنظمة أوبيك فى مؤتمرات الأمم المتحدة للتجارة والتنمية، والدورات الخاصة للجمعية العامة بخصوص إقامة نظام اقتصادى عالمى جديد وكذلك فى الحوار بين الشمال والجنوب وتزايد القوة النفطية والمالية العربية، أدى فى حد ذاته إلى تزايد شعور العام العربة بأهمية نبأ القوة الذاتية العربية التى تتوفر فى مقوماتها، ومن ثم فأن الحاجة إلى المساعدات الخارجية فى أشكالها القديمة، يتضاءل يوما بعد يوم، ويصبح تأثير مثل هذه المساعدات محدود الأثر على السياسات العربية ومن الممكن أن نقول أن العلاقات العربية الأمريكية التى تشهد الآن مرحلة التصالح، بعد انتهاء مرحلة التصادم التى سادت فى الخمسينات والستينات، لم تدخل بعد إلى مرحلة التحالف، ما تزال هناك خلافات حول أولوية الخطر الذى تحيط بالعالم العربى فمن وجهة نظر الولايات المتحدة فإن الخطر السوفيتى يأتى فى المقام الأول، بينما وجهة نظر العرب يأتى الخطر الإسرائيلى فى المقام الأول، وسوف تظل هذه الفجوة بين السياسة العربية والسياسة الأمريكية حائلا بين قيام تفاهم كامل واستراتيجى بين الجانبين حائلا بين قيام تفاهم كامل استراتيجى بين الجانبين، بل أن هذه الفجوة ذاتها، يمكن أن تصبح ذلك بؤرة للتوتر فى العلاقات بين أمريكا والعرب مرة أخرى وما أغرب الحال، وما أشبه الليلة بالبارحة، ففى بداية الخمسينات، وقف عبد الناصر فى مواجهة سياسية الولايات المتحدة التى تقول بأولوية الخطر الشيوعى فى الشرق الأوسط، مؤكدا على أولوية الخطر الإسرائيلى، وهو نفس الموقف الذى أخذ به مصطفى النحاس زعيم الوفد
وتعد مصر اليوم من بين الدول الأولى المتلقية للمعونات الأمريكية ولا تفوقها في ذلك غير الدولة الصهيونية.. ففي العشر سنوات الماضية وصل مصر 15 بليون دولار ما بين منح وقروض أمريكية. وبالإضافة إلى مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية بالنصيب الأكبر من المعونات الخارجية التي تصل إلى حوالي 2 بليون دولار سنوياً، تساهم في الإعانة كل من ألمانيا الغربية واليابان والبنك الدولي. ففي عام 1980 على سبيل المثال، وصلت مصر معونة قيمتها 150 مليون دولار من ألمانيا و175 مليون من اليابان وذلك بالإضافة إلى 450 مليون من البنك الدولي.
عندما نتساءل عن المنطق الذي يحكم هذا التدفق الهائل من المعونات الخارجية نجد في مصر نموذجاً يوضح توافر الظروف التي تشجع "كرم" الحكومات الغربية وأصدقائها اليابانيين والمؤسسات المالية الدولية ذات الهيمنة الغربية. ولو أن النقاش المطول لتوافر هذه الظروف يقع خارج نطاق هذا المقال، إلا أنه من الضروري أن نشير إلى أن إعادة تحديد وتنظيم أولويات مصر وسياساتها التنموية لها جذور في مرحلة تاريخية سابقة متعلقة بتناقضات رأسمالية الدولة في مصر. هذه التناقضات بعلاقتها الجدلية بعوامل خارجية دفعت إلى "فتح" مصر.. وقد تبلور هذا التفاعل في نهج كامب دافيد الذي يؤثر على كل وجوه الحياة الاجتماعية في مصر- سياسية واقتصادية وثقافية.. ومن هنا فان المعونة الأمريكية لا تنفصل عما يسمى بالتطبيع مع العدو الصهيوني او التبعية الاقتصادية او الامبريالية الثقافية ولا تنفصل أيضا عن تكبيل الحريات بالتشريعات القمعية. في هذا المقال نلقي الضوء على مثل هذا الترابط.. فالجزء الأول من المقال يقدم نظرة عامة لمعونات الولايات المتحدة الخارجية والجزء الثاني ينتقل إلى توضيح كيفية تطبيق هذه السياسة في الواقع المصري. فمنح مصر المعونة ينبع من نفس المنطلق الذي يدفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى "إعانة" دول أخرى من العالم الثالث.. هي الدول التي تطمع الولايات المتحدة في ضمها داخل نطاق نفوذها السياسي والتي تسعى أيضا بدمجها في النظام الرأسمالي العالمي.. ولقد وصفت الحكومة في إحدى تقاريرها عمل وكالة التنمية الدولية الأمريكية بمصر بأنه يقدم "خبرة" قابلة للتطبيق في بلاد أخرى.. وبصرف النظر عن التقييم الحكومي الأمريكي فإن تجربة المعونات في مصر كمثيلها في بلاد أخرى توضح انه عندما تقدم المعونة في إطار عدم التكافؤ السياسي فإنها تفيد هؤلاء الذين يتمتعون بالهيمنة بما في ذلك مصدري المعونات أنفسهم.. فالمكاسب السطحية التي قد تنتج عن مكون آخر من طرد المعونة لا يمكن عزلها عن الدور الأساسي لجملة هذه المكونات في حفظ استمرارية العلاقات غير المتكافئة وتعميق التبعية.
المعونة الامريكية بين ادعاءات المثالية وبراجماتية مصالح السياسة الخارجية
منذ أن أعلن الرئيس ترومان برنامج النقطة الرابعة للمعونات التقنية للدول النامية ظهرت محاولات لتصوير المعونة الأمريكية على أنها تعبير عن سلوك إنساني.. فكثيراً ما تعرض ظاهرة المعونة كتعبير عن النوايا الطيبة لمجتمع ديمقراطي تجاه المجتمعات الأقل حظاً والتي تتسم بالتخلف التقني وغياب القيم الاجتماعية المتناسقة مع التقدم والرخاء.
زور مقولة النوايا الإنسانية
تدل دراسة حديثة لاستطلاع الرأي على أن واحد فقط من كل عشرة أمريكيين يعتقد انه من المهم ان تساعد الولايات المتحدة الأمريكية الدول النامية لتحسن مستوى معيشتها.. فستون في المائة من المشتركين في هذه الإحصائية يوصون بخفض إنفاق حكومتهم على المعونات الخارجية. من الواضح إذاً أن الرأي العام ليس هو الذي يقرر سياسات المعونة الخارجية. فالمعونات الأمريكية تستمر حتى في أوقات قصور الإنفاق العام الداخلي لأنها تخدم مصالح أمريكية متعددة.. فكما جاء على لسان عضو الكونجرس الأسبق كلارنس لونج، "إن مؤيدي المعونة يمثلون دوافع اقتصادية وسياسية متنوعة تشكل أهدافا مختلفة مثل شراء أصوات في الأمم المتحدة أو إحراز قواعد عسكرية عبر البحار.....
ويعتبر رئيس الولايات المتحدة والرسميون في وزارة الخارجية ومجموعات المصالح بالكونجرس من أهم مؤيدي المعونات الخارجية فالرؤساء الأمريكيون يعترفون بصراحة بأهمية المعونات الخارجية كأداة لتعزيز مصالح أمريكا الاقتصادية والسياسية والعسكرية في الخارج