تعتبر مشكلة التمييز في معاملة الأبناء من أكثر المشكلات التي تؤثر سلبيا على صحة الطفل النفسية التي قد تلازمه طوال حياته.
وتعتبر مشكلة عالمية يعاني منها الأبناء مهما اختلف الجنس أو العرق أو الحالة الاجتماعية حتى في الدول الصناعية الكبرى. وعلى الرغم من زيادة الوعي بالآثار النفسية لهذا السلوك فإن الكثير من الآباء ما زالوا يمارسون التمييز بين أبنائهم لسبب أو لآخر.
تحليل أسباب التمييز
كانت معظم الدراسات السابقة قد ركزت على الأثر السلبي للمعاملة المختلفة على الطفل الذي يعاني من التمييز، ولكن هذه الدراسة تناولت بقية الأطفال، وأيضا محاولة تفهم الأسباب التي تؤدي بالوالدين إلى مثل هذه التصرفات.
أيٌّ من أولادك تُفضّلين؟
سؤالٌ قد نطرحه على الأمّ، ولم لا؟
إنما غالباً ما تلتزم هي الصمت المُحرج أو تنفي مؤكّدةً: «لا أفضّل أيّاً منهم على الآخرين، بل أحبّهم جميعاً بالتساوي».
وعن اتّهامها بميلها إلى الاهتمام بأحدهم أكثر من أشقّائه، توضح: «قد أُحبّ الشخصيّة القويّة التي يتمتّع بها الطفل البِكر، ودلال الثاني وذكاءَ الثالث... لكنّ هذا لا يعني أنّني أميّزُ بينهم».
وبالتالي ترفض حُكماً، نظريّة أنّ «الأمّ تُميِّز في طريقة حبّها لأولادها، أو أنّها تُفضّل أحدهم على الآخرين».
تكوينها النفسي
وتعليقاً على هذا الموضوع، أكّدت المُرشدة النفسيّة جويل خوري صوما أنّه «من الناحية النظريّة والمثاليّات، لا تُميّز الأمّ بين أولادها، حيث إنَّ لكُلّ واحد منهم ميزة معيّنة، وجميع أولادها مُمَيّزون في نظرها بطريقة مختلفة عن غيرهم، لكنّها أحياناً قد تميّز بين أطفالها وهذا عائد الى تكوينها النفسي ونسبة نضوجها».
وأوضحت سميرة أنّ بعض الأمّهات يُفضّلنَ الطفل الناجح والذكيّ والمتفوّق، فيما تفضّل أخريات الطفل الذي يشبههنَّ نفسياً وجسدياً أكثر من أشقّائه، وتميل أخريات الى تمييز الطفل المريض، فيولين اهتماماً كبيراً به أكثر من أشقّائه، إذ إنّهُنَّ يشعرن بالذنب تجاهه.
وفي هذا السياق، شدّدت سميرةعلى أنَّ «تمييز الطفل المريض يَتمُّ إيجاباً أو سلباً، فإمّا تُحيطه الأمّ بحبّها وحنانها، أو على العكس تهمله لأنّها من الناحية النرجسيّة لا تتقبَّله».
وأكّدت المرشدة النفسيّة أنّ «علامات تمييز الأمّ بين أولادها تكون واضحة، خصوصاً وأنّها على صعيد المعاملة تكافئ الطفل المُميَّز أكثر من أشقّائه، وتُبرِّر أخطاءه، فيما تُعاقب إخوته على ارتكابهم الخطأ ذاته».
موضوع شائع؟
لكن على رغم إقرار عدد ضئيل من الأمّهات بمَنح أحد أطفالهنّ دلالاً أكثر من الآخرين، وبالتالي تفضيله عليهم نوعاً ما، «إلّا أنّ هذا الموضوع لا يزال مُندرجاً ضمن خانة المُحرَّمات، ولا تجرؤ الأمّهات على الإقرار به»، حسب ما أكّدت عالمة النفس والاجتماع كاثرين سيلنيت.
وقد تناولت الباحثة موضوع «الطفل المُدلّل» في كتابها، مُبيّنةً مساوِئه ومنافعه.
وأكّدت سيلنيت في كتابها أنّ «تفضيل الأمّ أحد أولادها على أشقّائه موضوعٌ مُثار مُنذ زَمَن، وقد تحدّثت الأساطير القديمة عن نزاع الأخوة بسبب هذا الموضوع».
فلمَ هذا الإحراج والنفي إذاً؟
«لأنّه ابتداءً من القرن العشرين، باتت التربية مَبنيّة على المُساواة، وكان على الأمّ أن تحبّ جميع أولادها بالتساوي بعيداً من المفاضلة أو التمييز».
... وهذه علاماته
وأوضحت عالمة النفس والاجتماع في كتابها، أنّ علامات تمييز الأمّ في حبّها لأولادها تتأرجح بين علامات واضحة وأُخرى خفيّة، «فبطريقة غير واعية، تتقرّب الأمّ من طفلها المُفضّل حسّياً ونفسيّاً، وتميل إلى الجلوس بقربه دائماً الى مائدة الطعام أو في غرفة الجلوس، ومرافقته في نشاطاته الاجتماعيّة والرياضيّة».
وشدّدت سيلنيت على أنّ هذا القرب يكون نفسيّاً أيضاً «فتخوض الأمّ في نقاشات مُهمّة مع طفلها المُدلّل والمُفضَّل، تتمحور حول ألعابه ونشاطاته ومخاوفه وأصدقائه وكلّ ما يتعلّق بتفاصيل حياته».
وسلّطت الكاتبة الضوء على استخدام الأمّ بعض الألفاظ والتعابير الرقيقة الخاصّة لمُناداة طفلها المُدلّل، فتصِفُه مثلاً بـ»أميري الصغير»، أو «كنزي الثمين»..
فيما تُنادي الأطفال الآخرين بأسمائهم فقط. كذلك «يحظى الطفل المُفضَّل بمكانة خاصّة ومُميّزة في المنزل، فيحصل دائماً على كثير من الهدايا، ولا يُعاقَب على الأخطاء التي يرتكبها، ويُقدَّر لأيّ عمل يؤدّيه مهما يَكُن بسيطاً».
تُفضِّل مَن يُشبهها؟
وقالت سيلنيت إنَّ «تمييز الأهل بين أولادهم يرتكز على مبدأ «حبّ الذات»، فيُفضِّلون الطفل الذي يُشبههم أكثر سواء نفسيّاً أو جسديّاً». والسبب «يمثّل الطفل الذي يشبه والديه ويكون صورةً مُصغَّرة عنهم، مرآةً تعكس طباعهم الحميدة والمميزة، وهذا ما يشفي غرورهم ونرجسيّتهم».
وأوضحت الكاتبة أنّ الأمّ قد تميّز بين أولادها على أساس جنسهم «فالفتاة التي تأتي بعدَ صبيَين تحظى بمكانة خاصّة وبحبّ أمّها إذ تجسّد أحلامها».
وثمّة مُعطيات أخرى تدخل على خطّ تمييز الأهل بين أولادهم، منها على سبيل المثال ترتيبه بين إخوته.
«فيحظى الطفل البكر بالاهتمام الأكبر لأنّه أوّل مَن جَعَل أهله يشعرون بالأمومة والأبوّة»، حسب ما حللت الخبيرة النفسية والاجتماعية.
«في المقابل، ينسج الأهل علاقاتٍ خاصّة ومتينة مع الطفل الأصغر».
وذكرت سيلنيت في كتابها، موضوع «تعويض الأهل النقص لدى أحد أولادهم، خصوصاً إذا كان يُعاني إعاقةً وأمراضاً».
فرصة أو عبء؟
بالنسبة الى «الطفل المدلل»، لا يمرّ غنجه الزائد بلا نتائج إيجابية وسلبية واضحة.
«فمن الناحية النرجسيّة، يكون المُدَلّل مميّزاً في نظر والديه، وهذا ما يلقي عليه ثقلاً وضغوطاً كثيرة. فالأهل يراهنون عليه وعلى نجاحه، وبالتالي يجب أن يكون عندَ حسن ظنّهم ويُلبّي طموحاتهم وأحلامهم».
وفي هذه الحال أيضاً، تدخل فكرة «الدَّين»، «فالأهل ينتظرون من الطفل المُدَلّل الذي يُقدِّمون له كلّ شيء ويُميّزونه بطريقة مُعاملتهم له، أن يكون في المقابل وفيّاً لهم ويهتمّ بهم في المُستقبَل فيكون بمثابة العصا التي يستندون إليها في شيخوختهم».
غير أنّ الأطبّاء يُجمعون على أنَّ «مدّ الطفل بالدلال الزائد والغنج وتذكيره بضرورة أن يهتمّ بأمّه وأبيه عندما يشيخان، قد يعوق نموّه النفسي واستقلاليّته».
... نيران الغيرة
وتظهر انعكسات التمييز بين الاولاد على علاقة الأخوة، «فيشعر الأطفال الآخرون بالغيرة من «الطفل المُدلّل»، ويستغلّونه لتحقيق مآربهم الشخصية، أو يلحقون به الضرر والأذى، وهذا ما يُشعره بالسوء».
وتؤكِّد سيلينيت في هذا السياق، أنّه ليس سهلاً أن يكون الطفل مُدلّلاً لدى والديه، داعيةً الأمّهات الى عدم التمييز بين أولادهنّ ومعاملتهم على أسس المساواة الواعية، أي تربيتهم مع أخذ احتياجات كُلّ منهم في الاعتبار».
عوامل مختلفة
وأوضحت الخبيرة أيضا أنه إذا كان هناك بعض الظروف التي تضطر الآباء إلى الاهتمام بطفل أكثر من الآخر لأسباب مختلفة تبعا لعدة عوامل مثل عمر الطفل.
وعلى سبيل المثال يمكن أن يفضل الآباء الطفل الأصغر في السن عن الطفل الأكبر وقد يكون هذا التفضيل نظرا لطبيعة الطفل الصغير واعتماده بشكل شبه كامل على الأم.
ولكن يجب في هذه الحالة أن تقوم الأم بشرح مبسط للطفل الأكبر في السن عن ضرورة توفير الرعاية للأخ الأصغر حتى يتسنى له أن يكبر ويصبح مثل أخيه وبذلك يتم الاستبدال بالمشاعر السلبية مثل الغيرة والشعور بعدم الاهتمام.
مشاعر أكثر إيجابية مثل العطف والاهتمام بالأخ الأصغر، وأيضا في الحالات الاستثنائية مثل أن يكون الطفل الذي يتم تمييزه يعاني من مرض مزمن يستدعي اهتمام الوالدين وتفضيلهم.
وأشارت الخبيرة إلى أن الأطفال يمكنهم التفهم في حالة وجود الدافع الحقيقي، ولكن يحدث العكس في حالة عدم وجود دوافع قوية للتمييز يمكن أن يتم شرح الأمر للأطفال بشكل مبسط بأن هذا الأخ يحتاج إلى رعاية أكثر نظرا لهذا الظرف الاستثنائي.
نتائج سيئة
ومن المعروف في الطب النفسي أن مشكلة التمييز في معاملة الأبناء تؤدي إلى النتائج النفسية السلبية من خلال ما يسمى بنظرية المقارنة المجتمعية (social comparison theory).
وتتلخص هذه النظرية ببساطة في أن تمييز الآباء لطفل عن الآخر يجعل الطفل الذي يعامل بشكل سلبي يفقد الثقة في نفسه ويبدأ في مقارنة نفسه بالآخرين (بقية الإخوة)، ويشعر بأنه أسوأ من إخوته، وذلك انعكاس للمقارنة الأصلية التي يقوم بها الآباء بتمييز طفل عن الآخر سواء بوعي أو من دون وعي.
وعموما فإن الطفل يمكن أن يتعايش بصعوبة مع المقارنة خارج المنزل بينه وبين إخوته، ولكن المقارنة داخل المنزل تشعر الطفل بالإهمال وعدم القيمة وتحطم ثقته بنفسه.
وهؤلاء الأطفال معرضون أكثر من غيرهم للانخراط في العادات السيئة عن بلوغهم فترة المراهقة مثل التدخين أو شرب الكحوليات أو إدمان المخدرات، ويمكن أن يتورط في نشاطات إجرامية مثل السرقة، ويلجأ إلى التحايل والخداع ويمكن في بعض الأحيان محاولة الانتحار.
واهتمت الدراسات الغربية بشكل خاص بالأم.
وقام الباحثون بجمع المعلومات عن تعليم الأمهات، وإذا ما كن انحدرن من عائلات سوية أو عانين من ضغوط نفسية مختلفة. وتم رصد التأثير التراكمي للكثير من عوامل الخطورة التي تتمثل في الضغط (التوتر) النفسي (stress) الذي تتعرض له الأم سواء في الماضي أو في الوقت الحالي.
مثل أن تقوم الأم بتربية الأبناء بمفردها، أو أن تعاني الأسرة من صعوبات مادية، أو تعرض الأم للإهانة أو الضرب من الأب، وغيرها من الضغوط النفسية، وتبين أنه كلما تعرضت الأم لعدد أكبر من الضغوط زادت احتمالية أن تفرق في المعاملة بين أولادها أكثر من غيرها من الأمهات التي تتعرض لضغوط نفسية أقل.
وأشارت الدراسة إلى أن الأمهات اللاتي عانين من ضغوط متزايدة أظهرن اختلاف كبيرا في المشاعر بين طفل وآخر حسب طبيعة الطفل، بمعنى أنه من المنطقي أن الأم التي تعاني من ضغوط نفسية لا تتحلى بالصبر الكافي مع الطفل المشاغب وقد تلجأ إلى تعنيفه.
ويمكن أن تستخدم الإيذاء البدني أو الصراخ في وجهة أو ما إلى ذلك، بينما لا يحظى الطفل الأكثر هدوءا بمثل هذا الإيذاء سواء النفسي أو البدني، مما يشكل فجوة كبيرة في المعاملة، ويؤثر بالسلب على الأطفال جميعا.
وإن زيادة عوامل الخطورة بالنسبة للأم ارتبط بوجود مشكلات نفسية مثل العدوانية ونقص التركيز والمشاعر المضطربة حتى لبقية الإخوة الذين لم يتعرضوا للتمييز أو للأخ الذي حظي بتمييز إيجابي.
وهذا الأمر قد يبدو غريبا، ولكنّ الباحثين أرجعوا ذلك إلى أن الأخ الذي يحظى بالتمييز الإيجابي يمكن أن يشعر هو الآخر بالذنب نتيجة للتعامل غير العادل، ويكون الاضطراب في السلوك بمثابة نوع من الاعتراض على مثل هذه المعاملة وإرسال رسالة لا شعورية إلى بقية الإخوة أنه لم يشارك في التمييز ضدهم، وبالتالي فإن الأم المضطربة نفسيا يمكن أن تمهد إلى بث المشاعر السلبية بين أفراد الأسرة جميعا.
وختمت كتابها مؤكّدةً أنّه «لا يمكن الحدّ من التمييز بين الأولاد، ولكن على الأهل أن يوجدوا توازناً في طريقة مُعاملتهم لأولادهم تجنُّباً للآثار السلبيّة التي قد تترتّب مُستقبَلاً».