ليس للاستغفار حدٌ محدود
سائل يقول: شكوت إلى أحد الرجال الصالحين من كثرة تذبذبي بين أمور الدنيا وعدم اطمئناني على عبادتي، كالصوم والصلاة؛ لأني أصوم وأصلي منذ عشر سنوات ومغريات الدنيا كبيرة، فقال لي هذا الرجل: "اتبع هذه الطريقة لعل قلبك يهدأ، تقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه مائة مرة، وتقول: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم مائة مرة، وتقول: لا إلا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير مائة مرة". فهل هذا صحيح أم لا؟ وهل هو المقصود بقوله تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد: الآية 28]؟
لا شك أن الإكثار من ذكر الله والاستغفار والصلاة والسلام على رسول الله من أعظم الأسباب في طمأنينة القلوب وراحتها، وفي السكون إلى الله-سبحانه وتعالى-والأنس به سبحانه، وزوال الوحشة والذبذبة والحيرة، فالذي أوصاك به هذا الرجل قد أحسن في هذه الوصية.
لكن ليس للاستغفار حد محدود، ولا للصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- حدٌّ محدود، بل المشروع أن تُكْثِر من الصلاة والسلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-، قائمًا وقاعدًا، في الليل والنهار، وفي الطريق وفي البيت، لأن الله -جلَّ وعلا- قال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [سورة الأحزاب: الآية 56]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من صلى عليَّ صلاة؛ صلى الله عليه بها عشرًا).
ولا يتعيَّن عدد معين، وتستغفر كثيرًا مائة أو أكثر أو أقل، أما التحديد بمائة؛ فليس له أصل، فأكثر من ذلك وأبشر بالخير.
وأكثر من الاستغفار؛ لأنك مأمور بهذا، قال الله -عزَّ وجل-: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [سورة المزمل: الآية 20]، وقال سبحانه: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [سورة هود: الآية 3].
فالاستغفار له شأن عظيم، فينبغي لك أن تُكْثِر من الاستغفار في جميع الأوقات، وتقول بعد كل صلاة مكتوبة: "استغفر الله" ثلاث مرات، من حين تسلِّم وبعدها تقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، فقد كان النبي يبدأ بهذا حين يسلِّم -عليه الصلاة والسلام-في صلواته الخمس.
ففي الحديث الصحيح يقول-صلى الله عليه وسلم-: (من لَزِم الاستغفار؛ جعل الله له من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب)، ورُوِي عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من قال حين يأوي إلى فراشه: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات؛ غفر الله له ذنوبه). أما كلمة "لا إله إلا الله"؛ فقد جاء فيها الحديث الصحيح: (من قالها في يوم مائة مرة؛ كانت له عدل عشر رقاب، وكتب الله له مائة حسنة، ومحا عنه مائة سيئة، وكان في حِرْزٍ من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل أكثر من عمله). وهذا الحديث مخرج في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، فينبغي المحافظة على هذا كل يوم.
ويُشْرَع أيضًا لكل مسلم ومسلمة الإكثار من قول: "سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم"؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) رواه البخاري ومسلم.
وهكذا يُسْتَحب للمسلم أن يقول: " سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته " ثلاث مرات، فلها شأن عظيم؛ لما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه دخل ذات يوم على زوجته جويرية ضحى وهي في مصلاها بعد الصبح، فقال: (ما زلت مكانك الذي فارقتك عليه)، قالت: نعم. قال: (لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات، لو وُزِنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله العظيم وبحمده عدد خلقه، سبحان الله رضى نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته).
وهكذا سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لها شأن عظيم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أحب الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس)، وقال أيضًا -عليه الصلاة والسلام-: (الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله)، وقال -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟) قال: بلى يا رسول الله قال: (لا حول ولا قوة إلا بالله).
فينبغي الإكثار من هذه الأذكار التي تطمئن بها القلوب وتستقيم بها الأحوال، مع الإكثار من الأعمال الصالحات، والتوبة النصوح من جميع السيئات، مع تقوى الله، والاستقامة على دينه، والحذر من المعاصي دائمًا.
ويُشْرَع لكل مسلم الإكثار من هذه الأذكار ومن الصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لما في ذلك من الأجر العظيم، والعاقبة الحميدة، وصلاح القلب وانشراحه، وزوال الذبذبة والحيرة؛ لأن الله-سبحانه-وَعَد بذلك من استقام على أمره، وسارع إلى طاعته، وأكثر من ذكره ومن الصلاة والسلام على رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
رزق الله الجميع الاستقامة وأعاذنا جميعًا من نزغات الشيطان وهدانا جميعًا لصراطه المستقيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
المرجع: مجموع فتاوى و رسائل الشيخ عبد العزيز بن عبدالله بن باز -رحمه الله-