لا أزال ألح على مراجعة تفكيرنا الديني، وأساليب حكمنا على الأشياء والأشخاص!!
لقد سقطت الخلافة العثمانية من ستين سنة، وانفرط عقد الأمة الكبيرة على الصعيد العالمي، وكانت خسائر 'الرجل المريض' قد تلاحقت قبل وفاته، ثم تقاسم الأقوياء تركته، وأمست الأمة الإسلامية بلا أبوة روحية ولا ثقافية ولا سياسية، فهل وقفت الأمة اليتيمة وقفة تأمل واعتبار فيما أصابها؟
وهل تساءل العقلاء عن أسرار نكبتها؟
كم كتابا ألف فى أسباب تخلفها الحضارى؟
كم كتابا ألف فى تشريح العوج السياسي، والقصور العلمي، والانهيار اللغوي، الذى عرا هذه الأمة؟
كم كتابا ألف فى طبيعة التركيب الجنسي، والخلافات العرقية التى كانت تكون الدولة الغاربة؟
كم كتابا ألف فى تطور العلاقات الدولية مع جمود الفقه عندنا، أو فى تطور النهضات الإنسانية مع عكوفنا على الصور والأشكال الجوفاء؟
بم شغلنا؟ وبماذا نشغل الآن؟
إن مراجعة تفكيرنا الدينى ضرورة ماسة، ولا أعنى بتاتا رجوعا عن أصل قائم أو فرع ثابت، فهذا والعياذ بالله ارتداد مقبوح!
هناك فرق بين الرجوع والمراجعة!
إننى أعنى بالمراجعة: الحساب العقلى الشديد على مواقفنا من أنفسنا وديننا، وماذا فعلنا، وماذا تركنا، وماذا قدمنا، وماذا أخرنا؟
وكل محاولة للنهوض - دون هذه المراجعة الواجبة - قد تكون تكرارا للمأساة... وهذه المراجعة سهلة ما دمنا ننطلق من قواعد معصومة أساسها الكتاب والسنة.
على أنه لابد من إبعاد العقول الملتاثة عن علم الكتاب والسنة ولابد من تنقية منابعنا الثقافية حتى تروج أقوال الأئمة والعباقرة، وأهل الذكر، وتستخفى أقوال المعلولين وأذناب السلطات وأشباه العوام.
أؤكد أننا لا نبدأ من فراغ، فالعلماء الراسخون كثيرون فى تاريخنا الطويل، وإن كان فساد الحكم قد طوى أسماءهم، وأهان تراثهم، وقدم عليهم من لا يساوى قلامة أظافرهم...!
والآن - بعد ما دفعنا ثمن هذه الخيانات - يجب أن نراجع ثقافتنا وسياستنا...
إن الحق يدعم صاحبه وينفعه، والذى يعيش وفق جملة من الحقائق العقلية والخلقية والاجتماعية غير الذى يعيش فى عالم من الترهات والأباطيل..
والاستيحاش من الحق أو الاستكبار عليه لا يتركه القدر دون عقاب عاجل أو آجل.. فإن حافظ السماوات والأرض لا يترك أصحاب الهوى يفسدونهما كيف شاءوا ( ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون).
والمهم عندما نتيه عن الحق ألا يطول شرودنا عنه، وأن نعرف بدقة ما الخطأ الذى ارتكبناه؟ وما الصواب الذى نتشبث به؟
وفى تراب الهزيمة التى حلت بنا ماديا وأدبيا وقف مسئول مخبول يقول: إن الصلاة والصيام هما علة ضعف الإنتاج..!
وقلت، وقال أهل الرشد كلهم: إن الطريقة التى وليت بها الحكم أيها المستبد الأعمى هى سر تخلفنا العام..
وقال أحد الزهاد: إن حب الدنيا وكثرة المال هما... وقبل أن يتم حديثه، قلت: الأمريكيون أكثر من العرب مالا وأعز نفرا... وهم خير من العرب حالا.. وقال آخر كلاما لا أثبته..! إن علاج أمة ظلت قرابة ألف عام رفيعة القدر ثم هوت من حالق دائخة الفكر، مضطربة الخطو، لا يمكن أن يتم بكلمات مرتجلة وأحكام نزقة..!! أولى الخطوات الشجاعة أن نعترف بأغلاطنا، وهى كثيرة ومفزعة، ومتغلغلة فى ماضينا.. ثم نبدأ حركة التصحيح بتؤدة وعزم ومضاء.. ويحزننى أن أقول: إن جيشا من الدهماء يملأ آفاق العمل الديني، لا يحسن درس القضايا، ولا إصدار الأحكام!
والجنون مراتب، هناك جنون مطبق يسقط عن صاحبه التكليف، وهناك جنون جزئى يجمع بين المتناقضات دون حرج! وإلى هذا النوع من الجنون يشير القرآن الكريم عندما يقول لنفر من أهل الكتاب : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون).
نعم أين العقل فى هذا التصرف؟
في هذا الميدان رأيت نوعين من الناس، نوعا لا يستطيع الرؤية لعجز في حاسته، ونوعا يرى ولكنه مشدود بالهوى إلى شيء آخر مسيطر عليه، كلا النوعين لا يصلح لعمل إسلامى محترم، لأن الإسلام لا يصلح له إلا أولو الألباب.
والواقع أن سلامة التفكير واستقامة الخطو هما لباب الدين، وأين تجد الدين مع الغباء المستحكم والعوج الغالب؟ الدين عندئذ مراسم مجلوبة على فراغ، ولا قيمة للتاج على رأس مجنون.
هناك آيتان تتحدان موضوعا وإن تغايرتا أداء.. قوله تعالى :
(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ).
وقوله تعالى:
( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ).
العمل الحسن المتقن الجيد هو الطريق إلى الله، وبقدر جهد صاحبه فى إبرازه على خير وجه، وابتغاء وجه الله به، تكون مكانته، هذا معنى الآية الأولى...
أما الآية الثانية فقد أشار صدرها إلى حقيقة فلسفية مقررة هى قيام الكائنات بربها، واعتمادها فى وجودها وبقائها على إيجاده وإمداده.
فمن تتبع هذا المعنى فى الأنفس والآفاق ولزم سيره فى هذا الخط القويم عرف الله، وتجاوب مع وصاياه، واستقر على هداه...
يقول ابن كثير فى تفسير هذه الآية : (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها) {أى تحت قهره وسلطانه، وهو الحاكم العادل الذى لا يجور فى حكمه، فإنه على صراط مستقيم، روى الوليد بن مسلم، عن صفوان بن عمرو، عن أيفع بن عبد الكلاعى أنه قال: ( ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ) قال: يأخذ بنواصى عباده، فيلقن المؤمن حتى يكون له أشفق من الوالد لولده، يقول: ما غرك بربك الكريم؟
وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة، ودلالة قاطعة على صدق ما جاء به وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام التى لا تنفع ولا تضر ولا توالى ولا تعادي، وإنما يستحق إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، الذى بيده الملك وله التصرف، وما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه..}
وينظر صاحب المنار إلى الآية من جهة أخرى فيقول: {(إن ربي على صراط مستقيم) أى على طريق الحق والعدل، لا يسلط أهل الباطل من أعدائه على أهل الحق من رسله ومتبعيهم من أوليائه! ولا يضيع حقا ولا يفوته ظالم}
وما يقوله الشيخ رشيد يقع بعد الاختبار المحتوم بين الحق والباطل، هو اختبار قد يتعرض فيه الحق للهوان، وقد يملك الباطل فيه السلطان، ولكن إلى حين!! ثم تكون العاقبة للمتقين..!!
إن كلا المفسرين الكبيرين وضح طرفا من الآية، والذى أريد إبرازه أشمل وأخصر...
إن الذى يتحرى الحق ويلتزم منهجه، ويحرص عليه ويتجنب الانحراف والزيغ لابد أن يصل إلى الله، وذلك معنى قوله تعالى: (وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر)، قال مجاهد: "طريق الحق.. على الله" أى يدل عليه ويبلغ إليه حتما، ويؤيد ذلك ابن كثير فيقول: أخبر سبحانه وتعالى أن ثم طرقا تسلك إليه فليس يصل منها إلا طريق الحق، وهى الطريق التى شرعها ورضيها، وماعداها مسدودة والأعمال فيها مردودة، ولهذا قال: (ومنها جائر) أى حائد مائل..!! والحائد عن الصراط المستقيم لا يصل إلى الله أبدا.
وعندما تبجح إبليس، وظن أنه قادر على إغواء البشر، أخبر رب العزة أن الطريق إليه لا يتطلب عبقرية خارقة، ولا يكلف مشقة بالغة، إنه طريق سهل قريب ممهد ( قال هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين).
والمقارنة بين خلال (صفات) المحقين والمبطلين تكشف عن طبائعهم، وتحدد وظائفهم الاجتماعية، فالبعداء عن الله لا يعرفون الحق ولا يقولون به؟ مواهبهم البشرية مطموسة وقدراتهم مشلولة، ومن هنا فإن مجتمعاتهم طافحة بالشرور، مشدودة إلى الوراء، لا تقدر أن تقدم لنفسها ولا لغيرها خيرا، وتدبر قوله تعالى يصف أولياءه وأعداءه: ( وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ).
إن الأمة المسلمة حقا بريئة من الصفات الأولي، معروفة بالصفات الأزكى والأرقي، فهى مشهورة بالعدل آمرة به، وهى فى الأسرة الدولية قوامة بالقسط فى كل مجال، وهذا القيام ناضح من إقساطها فى حياتها الداخلية وبناء شعوبها على المعروف والحق..
أمر المسلمين لا يقوم على دعاية كذوب ومزاعم جوفاء، وما تقوم أمة على هذا الهزل الذى نرى أنه يداوى الجهل بالعلم، والخطأ بالصواب، وأنه بالتربية النفسية والعقلية يعرف المرء ربه وباستقامة اللب والقلب يلتقى المرء مع مولاه!! وأن التدين مع العوج الفكرى والنفسى نوع من الخبال تتجاور فيه المتناقضات، وقد تضيع فيه الحقيقة ويبقى الشكل الذى لا وزن له...
وهذه الحقائق تشمل الأفراد والجماعات، بل لعل آثارها أكثر فى تاريخ الأمم منها فى تاريخ الآحاد من الناس...
إن الارتقاء العقلى والخلقى لمجتمع ما قد يغطى القصور لدى بعض الناس، ولكن الارتقاء الجزئى لا يغطى قصور الجماعات ولا يوارى سوآتها...
التقيت بالأستاذ الإمام حسن البنا قبل يوم من استشهاده، وعانقته وأفزعنى أنى عانقت عظاما معلقة عليها ملابس! كانت الهموم قد اخترمت جسد الرجل فلم تبق منه إلا شبحا يحمل وجهه المغضن العريض. وشرع يحدثنى كما يحدث أى تلميذ له. قال: {لو استقبلت من أمرى ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى أيام 'المأثورات'}.
واستبنت ما يعني، لقد واجهت قلة من المؤمنين طوفانا من المتاعب والمآسى نما مع الليالى السود! أين الناس؟ أين المسلمون؟ أعداد كبيرة تبحث عن الطعام، وأخرى تبحث عن اللهو، وثالثة تلهث وراء آمالها فى هذه الدنيا!!!
وهؤلاء المصلون الخارجون من المساجد! أما يهتمون بدينهم الموشك على الغرق؟ إنهم كثيرون لكن لا وعى ولا حراك!! إن القصور الفقهى والأدبى حولهم إلى غثاء لا خير فيه.. إن السواد الأعظم يحتاج كل الاحتياج إلى إحياء تربوى طويل، والمعركة قبل ذلك قليلة الغثاء! نعم سيضرب الدعاة جند أشبه بالآلات، وسيقف الجمهور يتفرج ويتسلى كأن الأمر لا يعنيه..
ألا نعيد النظر فى تفكيرنا ووسائلنا؟!