لاتزال فضيحة التجسس التي قامت بها وكالة الأمن الوطني الأمريكي، والتي تعتبر اكبر مشروع تجسس عالمي يمكن الاستخبارات الأميركية من الدخول إلى أنظمة كبرى شركات الإنترنت وجلب أية معلومات تحتاجها عن أي مستخدم لتلك الشركات سواء في داخل الولايات المتحدة او خارجها وبدون أي عقبات، محط اهتمام العديد من الحكومات ووسائل الإعلام العالمية والكثير من المنظمات الحقوقية التي أدانت مثل هكذا أعمال باعتبارها انتهاك سافر للحريات التي تروج لها الاداره الأمريكية، ويرى بعض المراقبين ان هذه الفضيحة وبالإضافة الى ما ترتب من انتقادات داخلية ربما ستسهم بخلق أزمة دبلوماسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول العالم الأخرى ومنها حلفاء أمريكا التي أثبتت الوثائق أنهم كانوا من ضمن المشمولين بهذا المشروع. وفي هذا الشأن وبعد سبع سنوات على كشف معلومات عن قيام الاستخبارات الأميركية في عهد الرئيس السابق جورج بوش بمراقبة الاتصالات الهاتفية في الولايات المتحدة، اضطرت إدارة الرئيس باراك اوباما الى تبرير موقفها بعد معلومات عن قيامها سرا بتمديد العمل ببرنامج التنصت هذا وتوسيع نطاقه. وأكدت الإدارة الأميركية التي ما تزال في قلب الجدل بشأن التنصت على اتصالات صحافيين في وكالة اسوشيتد برس الأميركية، إبقاءها على برنامج تنصت سري كأداة أساسية في مكافحة الإرهاب.
وقال مساعد المتحدث باسم البيت الأبيض جون ايرنست ان "الأولوية الرئيسية لرئيس الولايات المتحدة هي الأمن القومي للولايات المتحدة. يجب ان يكون لدينا الأدوات اللازمة لمواجهة التهديدات التي يطرحها الإرهابيون". وكشفت صحيفة الغارديان البريطانية عن أمر قضائي سري يرغم شركة فيرايزون الاميركية المشغلة للاتصالات بتسليم وكالة الأمن القومي، إحدى ابرز وكالات الاستخبارات الأميركية، البيانات الهاتفية العائدة للملايين من مشتركيها بين نيسان/ابريل وتموز/يوليو 2013.
وأعلن أعضاء مطلعون في الكونغرس ان هذا النوع من المراقبة قائم منذ العام 2007، مؤكدين بذلك ان الامر القضائي الذي كشفته صحيفة الغارديان ليس سوى تجديد روتيني لممارسة قائمة. وعلق مسؤول اميركي رفيع المستوى طالبا عدم كشف اسمه بأن جمع أجهزة الاستخبارات لمعلومات هاتفية، وهي ممارسة تقوم بها وكالة الامن القومي من خلال تنصت اجهزتها على مليارات المحادثات الهاتفية والمراسلات الالكترونية في العالم، يمثل "اداة اساسية" في مكافحة الارهاب.
ومن دون اعطاء تأكيد واضح لهذه المعلومات، شدد المسؤول الاميركي على ان الوثيقة التي نشرتها صحيفة الغارديان البريطانية "لا تسمح للحكومة بالتنصت على المحادثات الهاتفية لأحدهم" ولا تتناول "مضمون المحادثات او اسم المشتركين". واشار هذا المسؤول الى ان المعلومات المرسلة هي "بيانات وصفية مثل رقم الهاتف او مدة الاتصال". ويبلغ عدد مشتركي شركة فيرايزون لخدمات الهاتف الثابت والمتحرك 121 مليونا.
الا ان المعلومات التي كشفتها الغارديان البريطانية تعيد احياء المخاوف الكبيرة لدى المدافعين عن الحريات الفردية الذين يحاولون منذ سنوات تسليط الضوء على استخدام الحكومة احد بنود قانون "باتريوت اكت" المتعلق بمكافحة الارهاب والذي تم التصويت عليه في حمأة هجمات 11 ايلول/سبتمبر 2001.
وندد جميل جافر الناشط في مجموعة "اميركان سيفيل ليبرتي يونيون" الحقوقية الاميركية بالمعلومات عن التنصت على البيانات الهاتفية للاتصالات في الولايات المتحدة قائلا "هذا الامر يتخطى ما تحدث عنه اورويل"،ـ في اشارة الى رواية "1984" للكاتب جورج اورويل. وتقدمت المجموعة الحقوقية بدعوى قضائية لارغام الحكومة على توضيح موقفها بشأن اللجوء الى قانون "باتريوت اكت". وقال في بيان "هذا اثبات جديد على مدى تهميش الحقوق الديموقراطية الاساسية، بشكل سري، لمصلحة وكالات الاستخبارات لا يحاسبها احد".
وفي العام 2006، اثارت صحيفة "يو اس ايه توداي" الاميركية صدمة في الولايات المتحدة من خلال معلومات كشفتها تفيد بان وكالة الامن القومي "تجمع بشكل سري البيانات الهاتفية لعشرات ملايين الاميركيين عبر استخدام عناصر مقدمة من (الشركات المشغلة للاتصالات) ايه تي اند تي،ـ فيرايزون وبيل ساوث"، وذلك بهدف "كشف انشطة ارهابية". ولم يشمل هذا البرنامج للتنصت في حينها سوى الاتصالات بين متصل موجود في الولايات المتحدة واخر في الخارج. وقامت ادارة جورج بوش بعدها بتعديل البرنامج ليصبح الإطلاع على بيانات المشتركين منوطا بالحصول على موافقة من محكمة سرية متخصصة في قضايا التنصت.
وقام الكونغرس منذ العام 2001 بتمديد العمل ببنود "باتريوت اكت" في العام 2011، ويبدو ان السلطة التنفيذية احاطت بعض اللجان البرلمانية علما بتطبيقها قانون "باتريوت اكت" للمطالبة بتسليم بيانات بطريقة غير ممنهجة وغير موجهة ضد مشتبه بهم في قضايا ارهاب. وجاءت ردود النواب الاميركيين متباينة ، اذ ان بعضهم بدا غير مطلع على الحجم الحقيقي للتنصت.
وقال الجمهوري جون ماكين "اذا كان الامر محصورا باستهداف (الجهاديين)، لا اعتقد ان لدي مشكلة. لكن اذا كان المطلوب البحث بطريقة غير منظمة عمن يتصل بمن، في اي ظرف كان، فهذا يستحق جلسات استماع برلمانية". واكتفى المدير القانوني لشركة فيرايزون بالقول في بيان ان الشركة ملزمة قانونا بالانصياع لمثل هذا الامر القضائي، وبان ليس من حقها الكشف عن وجوده. وكان عضوان في لجنة الاستخبارات في الكونغرس وجها رسالة الى وزير العدل اريك هولدر لحمل الادارة الاميركية على نشر الوثائق القانونية التي تحدد الاطر القانونية لبرنامج المراقبة من دون تمكنهما من كشف التفاصيل المصنفة سرية. بحسب فرانس برس.
وكتب رون وايدن ومارك يودال في اذار/مارس 2012 ان "غالبية الاميركيين سيصدمون عند معرفتهم بتفاصيل الطريقة التي فسرت هذه المذكرات القضائية السرية فيها الفقرة 215 من باتريوت اكت". واضاف عضوا الكونغرس في رسالتهما "بنظرنا، ثمة فارق كبير بين ما يظن غالبية الاميركيين انه مسموح قانونا، وما تظن الدولة الفدرالية سرا ان لديها الحق بالقيام به".
عمالقة الانترنت
في السياق ذاته كشفت تقارير صحافية ان الاستخبارات الأميركية تتجسس سرا على خوادم تسعة من عمالقة الانترنت في الولايات المتحدة من بينها آبل وفيسبوك ومايكروسوفت وغوغل، وذلك ضمن اطار عملية واسعة تستهدف مقيمين في الخارج. وانتقد مدير الاستخبارات القومية جيمس كلابر تسريب المعلومات حول البرامج السرية وحذر من ان كشف معلومات حول برنامج اخر للتنصت على المخابرات الهاتفية في الداخل يمكن ان يهدد الامن القومي للولايات المتحدة.
في المقابل، نفى البيت الابيض الذي يواجه جدلا متزايدا حول نطاق وحجم برامج التجسس السرية اي تنصت على الاميركيين لكنه شدد على ضرورة استخدام كل السبل الممكنة من اجل حماية الاراضي الاميركية. واوردت صحيفة واشنطن بوست نقلا عن موظف سابق في الاستخبارات ان وكالة الامن القومي قادرة على الدخول مباشرة الى خوادم مزودي خدمة الانترنت من اجل تعقب تحركات افراد على الشبكة من خلال الصوت والصورة والفيديو والرسائل الالكترونية.
وتابعت الصحيفة ان برنامج "بريزم" للتجسس السري يشمل بعض كبرى شركات الانترنت من بينها مايكروسوفت وياهو وفيسبوك وآبل وبالتوك وايه او ال وسكايب ويوتيوب. واضافت ان موظفا سابقا في الاستخبارات "عمل مباشرة على هذه البرامج ويعلم بمدى قدراتها المخيفة" هو من سرب المعلومات. ونقلت عن الموظف قوله ان هذه البرامج "بوسعها ان تتابع افكار الشخص وهو يطبع الكلمات على الشاشة امامه".
الا ان كبرى شركات الانترنت نفت اي تعاون مع الاستخبارات الاميركية. واعلن المتحدث باسم آبل ستيف داولينغ "لم نسمع ببرنامج بريزم من قبل ابدا". واضاف داولينغ "لا نسمح بدخول اي وكالة حكومية الى ملقماتنا، وعلى اي هيئة من هذا النوع تبحث عن بيانات عن احد المستخدمين ان تستصدر امرا قضائيا". اما مسؤول الامن لدى فيسبوك جو ساليفان فقال ان شبكة التواصل الاجتماعي العملاقة لم تسمح لاي هيئة حكومية بالدخول الى ملقماتها. كما شدد كل من غوغل ومايكروسوفت على انهما لا يكشفان اي معلومات الا بموجب امر قضائي.
واعلن البيت الابيض ردا على هذه المعلومات التي اوردتها ايضا صحيفة ذي غارديان البريطانية ان الاميركيين لا يتعرضون للتجسس لكنه لم ينف وجود البرنامج. وقال موظف الاستخبارات السابق ان "الامر يتطلب اجراءات مكلفة توافق عليها المحكمة لضمان ان وحدهم الاجانب المقيمين خارج الولايات المتحدة من يشملهم التجسس وللحد من من اي معلومات يمكن جمعها او الاحتفاظ بها او نشرها عن طريق الخطا حول مواطنين اميركيين".
وتابع ان الكونغرس اعاد السماح بالعمل بالرنامج بموجب البند 702 من قانون التجسس في الخارج "بعد جلسات ونقاشات مكثفة". وحذر كلابر في محاولة للحد من الاضرار التي يمكن ان تنجم عن الكشف حول برنامج التجسس ان المعلومات التي يتم جمعها بموجبه "من اكثر المعلومات التي يمكن جمعها في الخارج اهمية". واضاف كلابر ان "كشف المعلومات غير المرخص له حول هذا البرنامج الهام والقانوني غير مقبول ويمكن ان يهدد امن الاميركيين".
وبدات المعلومات بحصول عمليات تجسس على الانترنت عندما اوردت ذي غارديان ان وكالة الامن القومي تسعى للتنصت على ملايين الاتصالات الهاتفية والالكترونية في الداخل. وحث اتحاد الحريات المدنية الاميركية مؤيديه على الاحتجاج وعلى "المشاركة في تحرك عام ضد البرنامج" من خلال التوقيع على عريضة. الا ان مايك رودجرز الرئيس الجمهوري للجنة مجلس النواب الدائمة حول الاستخبارات اعتبر ان البرنامج اتاح تفادي شن هجوم على الاراضي الاميركية.
برنامج بريزم
بريزم هو برنامج التجسس الأمريكي وأداة وكالة الأمن القومي السرية لتعقب بيانات المراقبة العالمية، حيث كشف البرنامج الأمريكي عن قوة وكالة الأمن القومي لحصولها على بيانات المراقبة من عدة دول حول العالم بما في ذلك الأرقام التي لها علاقة بالولايات المتحدة. ونشرت صحيفة "الجارديان" البريطانية خريطة عالمية توضح نطاقات برنامج التجسس على دول العالم من خلال نظام الألوان، وتبين أن الدول المظللة بالأخضر هي الدول (الأقل تعرضًا للمراقبة) ثم بعد ذلك الأصفر يليه البرتقالي إلى الأحمر وهي الدول الأكثر المراقبة.
وحصلت الجارديان على وثائق سرية حول برنامج “بريزم” في وكالة NSA تحتوي على تفاصيل شديدة الدقة بما فيها خرائط تفصيلية لكل بلد، ما يعني وجود كم هائل من المعلومات يتم جمعها من شبكات الكمبيوتر والهاتف للدول الخاضعة للمراقبة. وتعمل أداة NSA الداخلية على عد وتصنيف سجلات الاتصالات، والمعروفة باسم بيانات التعريف، بدلا من محتوى رسالة بريد إلكتروني أو رسالة فورية.
وتظهر الوثائق جمع ما يقرب من 3 مليارات تقرير للمخابرات من شبكات الحاسوب لصالح الولايات المتحدة على مدى فترة 30 يومًا حتى نهاية مارس 2013. وتقول وثيقة واحدة وهي مصممة لإعطاء المسؤولين إجابات لأسئلة مثل، “ما هو نوع التغطية لدينا في البلاد بجانب أسئلة عن البنية التحتية في بعض البلاد”. و تحت عنوان “حالات الاستخدام والعينات”، تظهر النشرة أداة المعلومات بما في ذلك العديد من السجلات ونوعها التي تم جمعها ضد بلد معين.
خارطة الحرارة العالمية التي أطلعت عليها صحيفة الجارديان، تبين أن الوكالة جمعت فيمارس 2013 جمع 97 مليار تقرير للمخابرات من شبكات الحاسوب في جميع أنحاء العالم، وتكشف خريطة الحرارة الموجودة على الخريطة تكشف مقدار البيانات التي يتم جمعها من جميع أنحاء العالم. في 2007.
و كانت إيران هي البلد الذي جمع منه أكبر قدر من التقارير، بأكثر من 14 مليار تقرير في تلك الفترة، تليها 13.5 مليار تقرير من باكستان. وجاءت المملكة الأردنية، وهي واحدة من أقرب حلفاء أميركا العرب، في المرتبة الثالثة ب 12.7 مليار تقرير، فيما حلت مصر في المرتبة الرابعة ب 7.6مليار تقرير والهند في المركز الخامس برصيد 6.3 مليار تقرير. و يعطي كل رمز اللون على أساس المدى واسع الذي يخضع لمراقبة وكالة NSA. نطاقات نظام الألوان من الأخضر (الأقل تعرضًا للمراقبة) يليه الأصفر والبرتقالي إلى الأحمر (الأكثر المراقبة).
ويأتي الكشف عن نظام بريزم كاشفا لحالة الصراع بين وكالة الأمن القومي والمشرفين في مجلس الشيوخ الأمريكي حول ما اذا كان يمكن أن تتبع الاستخبارات الاتصالات الأمريكية و موقف وكالة الأمن القومي هو أنه ليس ممكنا من الناحية التكنولوجية للقيام بذلك والتجسس على الأمريكيين.
وتؤكد الجارديان أنها اطلعت على وثائق أخرى تثبت أيضا أن وكالة الأمن القومي قد تسمح للوكالة بتحديد عناوين الأشخاص المقيمين في الولايات المتحدة. وقد أعرب أعضاء مجلس الشيوخ عن إحباطهم ورفضهم لمشروع NSA . و قالت المتحدثة باسم وكالة الأمن القومي، ببساطة لا تسمح لنا بالتعرف على هويات جميع الأشخاص أو المواقع المرتبطة ببلاغ معين (على سبيل المثال، قد يكون من الممكن القول على وجه اليقين إن الاتصالات اجتازت مسار خاص داخل الإنترنت ومن الصعب معرفة المصدر الرئيسي أو جهة معينة ، أو أكثر خاصة هوية الشخص وعنوان البريد الإلكتروني . وأكدت أنه ” يتم تطبيق التدريب الصارم والتقدم التكنولوجي على الجميع بين كل عملياتنا الآلية واليدوية (البشرية) لتوصيف الاتصالات ضمان حماية حقوق الخصوصية للشعب الأمريكي. وأضافت إن استمرار نشر هذه الادعاءات حول قضايا سرية للغاية، وغيرها من المعلومات أخرجت من سياقها، ويجعل من المستحيل إجراء مناقشة معقولة على مزايا هذه البرامج .
المشروع هو عبارة عن برنامج يحمل اسم برِيزم PRISM ويتم تنزيله على أنظمة الشركات المعنية ويتيح هذا البرنامج لأجهزة الاستخبارات الحصول على كافة المعلومات التي تملكها شركات الإنترنت، من تاريخ المحادثات والصور والأسماء والملفات المرسلة والمكالمات الصوتية والفيديو وغيرها، وحتى أوقات دخول المستخدم وخروجه وبشكل فوري.
يذكر أن المشروع بدأ عام 2007 وبسرية تامة، وأول من شارك به كان شركة مايكروسوفت منذ انطلاقه في شهر ديسمبر من ذلك العام، ثم لحقتها ياهو في 2008، ثم جوجل وفيسبوك وبالتوك في 2009، ثم يوتيوب في 2010 وسكايب وAOL في 2011 وفي النهاية شركة “آبل” في 2012. والمشروع مستمر بالتوسع ليضم شركات أخرى ومنها دروب بوكس بحسب الوثيقة. غير أن شركات الإنترنت أجمعت على نفي معرفتها ببرنامج بريزم أو توفير أبواب خلفية للحكومات في أنظمتها.