يوسف العظمة
الشهيد الثائر وزير الدفاع السوري الذي استشهد على مشارف دمشق بعد ان دخلت القوات الفرنسية بيروت متجهة الى دمشق
الان الشهداء السوريين يستشهدون على يد ابناء بلدهم
يعدّ يوسف العظمة (1884 - 1920 م) , وزير الحربية الوحيد في العصر الحديث الذي استشهد على رأس قواته دفاعاً عن وطنه , وذلك في معركة ميسلون التاريخية ، تلك المعركة التي وصفها الباحث الموسوعي برهان بخاري بأنّها «معركة خاسرة عسكرياً، ورابحة تاريخياً» ، حيث أسست لشعلة النضال ضدّ الانتداب الفرنسي ، الذي استمر طوال أكثر من ربع قرن ، وانتهى بالجلاء التام للقوات الأجنبية عن سورية ، في 17 نيسان 1946 ، ولعلّ الدليل الحي على تأثير معركة ميسلون في النضال التحرري السوري هو النقش الذي ما زال موجوداًَ حتى اليوم على مدخل مبنى كلية الحقوق العريقة في جامعة دمشق (الجامعة السورية سابقاً) : «ثأر موقعة ميسلون ، ذكرى دخول القوات العربية ، دمشق 24 تموز 1945»
ولد الشهيد (يوسف العظمة) سنة 1884 في حيّ (الشاغور) بدمشق لأسرة كبيرة و عريقة ، ولمّا أصبح له من العمر 6 سنوات توفّي والده ، فكفله شقيقه (عزيز).
درس (العظمة) في دمشق في المدرسة الرشدية العسكرية ابتداءً من عام 1893، ثم في المدرسة الإعدادية العسكرية منذ عام 1897، وفي عام 1900 انتقل إلى المدرسة الحربية العسكرية (قله لي) في اسطنبول، وفي العام التالي دخل المدرسة الحربيّة العالية (حربية شهانه)، وتخرّج منها برتبة (ملازم ثان) سنة 1903، ورقّي إلى رتبة (ملازم أول) سنة 1905 ثم إلى رتبة (نقيب) سنة 1907 بعد أن قام بدورة أركان حرب محليّة في اسطنبول، و في أواخر عام 1909 أوفد في بعثة دراسية إلى ألمانيا، حيث درس هناك في مدرسة (أركان الحرب العليا) لمدة سنتين، و بعدها عاد إلى الأستانة، و عّين ملحقاً عسكرياً في (المفوّضية العثمانية العليا) في القاهرة.
شارك (العظمة) في حرب البلقان عام 1912 ، وفي عام 1917 عيّن كمساعد لـ (أنور باشا) المفتش العام للجيش العثماني، وعمل في أواخر الحرب العالمية الأولى كرئيس لأركان حرب الفيلق التركي الأول الذي دافع عن الدردنيل حتى نهاية الحرب ،وبعد الهدنة بقي (العظمة) في تركيا إلى أن سمع بتشكيل الحكومة العربية في دمشق ، فاستقال من منصبه في الجيش التركي - رغم زواجه من سيدة تركية رزق منها بطفلته الوحيدة (ليلى) - و التحق بالجيش العربي.
بعد التحاقه بالجيش العربي الفيصلي، عيّن (العظمة) كضابط ارتباط في بيروت، حيث استخدم الشفرة لأول مرّة في مكتب الحكومة العربية هناك، و بعد إعلان المَلَكيةّ نـُقل من بيروت، وعيّن رئيساً لأركان حرب القوّات العربية - بعد ترقيته إلى رتبة (عميد)- ، ثمّ عند تشكيل وزارة (هاشم الأتاسي) الدفاعية في 3/ أيّار(مايو)/ 1920 ، أسندت إليه وزارة الحربية ، فعكف على تنظيمها و تقوية الجيش العربي اليافع ، بل وقام بإجراء عرض عسكري في دمشق لتقوية الروح المعنوية في الجيش و لدى السكان ، و لكن الأقدار لم تمهله لإكمال تنظيم و تقوية هذا الجيش .
كان (يوسف العظمة) رجلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى ، معتزّاً بنفسه وبعروبته اعتزازاً واضحاً ، و كان يتحلّى بكثير من الصفات الحسنة التي شهد له بها حتّى أعداؤه ، كما كان عسكرياً بطبعه ، يؤمن أن للجيش مهمة واحدة هي أن يقاتل بصرف النظر عمّا إذا كان سيربح أو يخسر نتيجةً لهذا القتال ، وكان يعلم أنّه لابد من معركة فاصلة بين السوريين وفرنسا لم يمنعه من خوضها علمه سلفاً أنه سيخسرها ، لأنه آمن بأن دهس الجنود الفرنسيين لأجساد الشعب واستيلاؤهم على المدن المدمّرة أفضل وأشرف ألف مرّة من فتح أبواب البلاد للجيش الفرنسي يدخلها بكل سهولة و يمشي في شوارعها مستعلياً .
عندما أخذت الحكومة الفرنسية تسعى لتنفيذ الانتداب الذي أقرّه مؤتمر (فيرساي) حسب تقسيمات اتفاقيّة (سايكس- بيكو) ، بشكل عملية احتلال عسكرية كاملة ، عقدت هدنة مع تركيا ، وأرسلت قوّات عديدة للشرق ، وفوّضت الجنرال (غورو) مفوّضها السامي بإرسال إنذار نهائي إلى الملك (فيصل) ، وعندما وصل خبر الإنذار - الذي لم يرسل رسمياً بعد - إلى مجلس المؤتمر السوري (ما يقابل مجلس النوّاب) اجتمع يوم 13/ تمّوز ( يوليو)/ 1920 ، حيث ألقى (يوسف العظمة) وزير الحربية في حكومة (هاشم الأتاسي) بياناً عن الموقف ، و أعلنت الإدارة العرفية في البلاد.
The French General Gouraud
في يوم 14/ تمّوز (يوليو)/ 1920 تمّ تقديم الإنذار الخطي الموجّه من الجنرال (غورو) إلى الملك (فيصل)، والذي يتضمّن:
- وضع السكك الحديدية تحت تصرّف الفرنسيين بشكل مطلق
- التعامل بالعملة التي فرضتها فرنسا
- حلّ الجيش العربي وإلغاء التجنيد الإجباري
- قبول الانتداب الفرنسي
ورغم الرفض الشعبي والاستياء الشديد من الإنذار (حتى ضمن المؤتمر السوري) إلا أن الملك فيصل وحكومته قرّرا قبول الإنذار لسببين مهمين:
• نزولاً عند نصيحة اللورد الإنجليزي (اللنبي) عند استشارته ، إذ أشار بسرعة القبول لتفويت الغاية التي يسعى إليها (غورو) بدخول دمشق دخول الفاتحين!.
• ضعف الذخائر و الأسلحة لدى الجيش العربي..!
و تمّ قبول الإنذار ، و اضطر (العظمة) لمجاراة رفاقه في الحكومة والرضوخ لهذا القبول ، رغم رأيه القائل دوماً بأن "الجيش وجد ليقاتل حتى لو كانت نتيجة المعركة ضدّه"..!
وأُرسلت برقية لـ(غورو) في بيروت لإعلامه بقبول الإنذار، فردّ بأن المقصود بالإنذار ليس القبول فحسب ، بل تنفيذ شروطه بكاملها قبل منتصف ليل 21/ تمّوز (يوليو)/ 1920 ، وفي الحقيقة لم يكن هناك مبرر لهذا الرد لأن الحكومة العربية بدأت بالفعل بتنفيذ الشروط وتسريح الجيش الأمر الذي لم يعجب (المؤتمر السوري) ، فعقد جلسة غير عادية يوم 19 وسحب الثقة علنياً من الحكومة ، إلا أن الحكومة في اليوم التالي أعلنت في بيان تلاه وزير الحربية (العظمة) تعليق جلسات (المؤتمر) لمدّة شهرين ، وقام الملك (فيصل) بكتابة مذكرة جدية إلى (غورو) لإعلامه بالتنفيذ ، وسلّمها إلى الكولونيل (كوس) المعتمد الفرنسي في دمشق قبل انتهاء المهلة ، إلا أن (كوس) لم يرسل المذكرة إلى (غورو) واكتفى بإرسال برقية بمضمونها ، إلا أن البرقية تأخرت بسبب تعطّل خطوط البرق ، فتذرّع (غورو) بتأخّرها و أصدر الأمر لجيوشه بالتحرّك نحو دمشق!
قام الملك (فيصل) بمحاولة أخيرة للتفاهم مع (غورو) ، وأرسل السيد (ساطع الحصري) وزير المعارف موفداً للتفاهم معه ، وأثناء مرور (الحصري) على ميسلون في طريقه إلى بيروت طلب منه (العظمة) الذي كان يحاول لمّ فلول الجيش أن يحصل على أطول هدنة ممكنة ليتمكن من جمع أكثر ما يمكن من العتاد والسلاح.
استطاع (الحصري) الحصول على هدنة لمدّة 24 ساعة بعد موافقته باسم حكومة دمشق على شروط إضافية، إلا أن المفاوضات الجديدة مع (غورو) لم تثمر إلا عن شروط جديدة أقسى من سابقتها دلّت بوضوح بأنه لن يتراجع عن احتلال دمشق مهما يكن ، وهكذا وجد الملك والحكومة أنه لم يعد هناك مجال لقبول هذه الشروط الجديدة، وتم رفضها ، وبدأت القوى الوطنية بحثّ الناس على الخروج إلى ميسلون لصد العدو ، فتراكض جمع غفير إلى هناك مسلحين بالبنادق والمسدسات القديمة والسيوف وحتى بالمقاليع لينضموا لفلول الجيش التي حاول (العظمة) جمعها قبل إتمام أمر تسريحها الذي صدر سابقاً استجابة للإنذار ، وانطلق بصحبة مرافقه إلى القصر الملكي ليستأذن الملك فيصل بالذهاب إلى الجبهة.
ولم يعد هناك بد من خوض معركة غير متكافئة بين الجيش الفرنسي المجهز بأحدث أسلحة العصر والبالغ عدد أفراده 9000 جندي بقيادة الجنرال (غوابيه) ، وهو حفيد أحد القادة الصليبيين الذين جاؤوا لغزو بلادنا في الحملة الصليبية الثانية عام (1147م) ، وبين 8000 من الجنود نصفهم على الأقل من المتطوعين والمسلحين بأسلحة قديمة دون دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة ، بقيادة يوسف العظمة.
وخرج (العظمة) ليتولّى قيادة الجيش في ميسلون في يوم 23/ تموز (يوليو)/ 1920 تحت راية موجودة حتى الأن في المتحف الوطني بدمشق، وهي العلم العربي من حيث الشكل والألوان
:
كتب على اللون الأسود : وجاهدوا في سبيل الله
وكتب على اللون الأبيض: إن الله معنا
وكتب على اللون الأخضر: إنا فتحنا لك فتحا مبينا
وكتب على الوجه اأخر:
على اللون الأسود: لا اله الا الله
على اللون الأبيض: محمد رسول الله
على اللون الأخضر: اللواء الأول مشاة سنة 1338
واجتمع بالضباط الذين لم يتموا تنفيذ أمر تسريحهم وأبلغهم أن الحرب لابد قائمة ، وأوعز إلى جميع القوى لتكون على أهبة الاستعداد لصد العدو المهاجم ، وألقى على قادته فكره شفهياً خطته الدفاعية-الهجومية ، والتي تتلخص في تنظيم خط دفاعي في وسط الجبهة على جانبي الطريق (القلب) ، مع فرز وحدات خفيفة إلى يمين ويسار الجبهة لحماية الجناحين (الجناح الأيمن والجناح الأيسر) ، إضافة إلى وضع ألغام محليّة الصنع على الطرق المؤدية إلى المنطقة .
وتمركز (العظمة) في مركز قيادة الجبهة في أعلى مرتفع يشرف على الجبهة بكاملها ، وبعد أن أدى صلاة الصبح ليوم 24 بدأ بالاستعداد لخوض المعركة التي استمرت من الفجر حتى الظهر .
كانت حالة المعركة حسنة حتى الساعة التاسعة عندما بدأت المدفعية الفرنسية بالتغلب على المدفعية العربية ، وبدأت الدبابات الفرنسية بالتقدم باتجاه الخط الأمامي العربي في دفاع القلب، وعوّل (العظمة) على الألغام المدفونة لتوقف تقدّم هذه الدبابات ، إلا أن الألغام لم تقم بعملها و لم تؤثر فأسرع إليها يبحث ، فإذا بأسلاكها قد قُطعت!
وتمكن الفرنسيون من تحقيق نصر غير شريف نظرًا لكثرة عددهم وقوة تسليحهم وعلى الرغم من استبسال المجاهدون في الدفاع عن الكرامة العربية.
وخلال المعركة وبعد نفاذ الذخائر نزل العظمة من مكمنه على جانب الطريق حيث يوجد مدفع عربي سريع الطلقات و أمر الرقيب سدين المدفع بإطلاق النار على الدبابات المتقدمة ، وما كان من أحد رماتها إلا أن أطلق ناره باتجاه (العظمة) فخرّ شهيداً ، و أسلم روحه الطاهرة هو و رقيب المدفع الذي كان بجواره في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24/ تموز (يوليو)/ 1920، .. استشهد العظمة في معركة الكرامة التي كانت نتيجتها متوقعة خاضها دفاعًا عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الدولة التي تولى الدفاع عنها.
وأنتهت المعركة بعد إستشهاد 400 جندي عربي، مقابل 42 قتيلا من الفرنسيين و154 جريح.
ودفن العظمة في المكان الذي أستشهد فيه وأصبح قبره في ميسلون إلى اليوم رمز التضحية الوطنية الخالد، تحمل إليه الأكاليل كل عام من مختلف الديار السورية.
عادت زوجته و ابنته ليلى إلى تركيا ، حيث توفيت ليلى هناك صغيرة .
بإمكان الزائر لحيّ المهاجرين أن يشاهد بيته هناك ، وقد تم تحويله لمتحف خاص بمقتنياته و أغراضه الشخصية .
يقال أنه لمّا استتبّ الأمر للفرنسيين قدِم (غورو) إلى دمشق في أوائل شهر آب (أغسطس)/ 1920، وكان أول ما فعله بعد وصوله أن توجّه إلى ضريح البطل (صلاح الدين الأيوبي) ، وخاطبه بتهكّم و شماتة: "يا صلاح الدين ، أنت قلت لنا إبان الحروب الصليبية أنكم خرجتم من الشرق و لن تعودوا إليه ، و ها نحن عدنا ، فانهض لترانا في سوريا" .