السؤال
كثرت برامج الدردشة في وقتنا الحالي فأريد أن أسأل: هل ما أكتبه يعتبر كلامًا قلته؟ أو بالأصح: هل أحاسب على ما أكتبه وأعتبر ثرثارًا إذا كثرت كتاباتي؟ فأرجو من فضيلتكم التكرم بالرد عن سؤالي - سائلين المولى أن ينفع بكم العباد والبلاد - ولكم كل التقدير.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد تواترت نصوص الشرع الدالة على أن الإنسان يحاسب على ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، ويشمل ذلك ما يكتبه بيده, ومن هذه النصوص قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ {البقرة:79} وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا {الكهف:49}، وقوله سبحانه وتعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ {القمر:52-53}.
قال ابن كثير في قوله تعالى: إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (ق:18): أي: إلا ولها من يرقبها معد لذلك ليكتبها، لا يترك كلمة ولا حركة, كما قال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (الانفطار:10-12). انتهى.
فلذا ينبغي للعباد استشعار مراقبة الله تعالى وهو يقدم على الكتابة, وقد أحسن من قال:
وما من كاتب إلا سيبلى *** ويبقي الدهر ما كتبت يداه.
فلا تكتب بكفك غير شيء *** يسرك في القيامة أن تراه.
وينبغي كذلك الحرص على توظيف هذه التقنيات - وما فيها من نعمة سهولة التواصل بين الناس - في الدعوة إلى الله تعالى, والتناصح بين الناس, وإيصال الخير لهم, كما ينبغي قول ذلك لهم باللسان, فقد قال الله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83], وقال تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء:53], وفي الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت.
قال السعدي في تفسير قوله تعالى: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا {الإسراء:53} قال: هذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر وعلم وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يأمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما, والقول الحسن داع لكل خلق جميل وعمل صالح، فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره. اهـ
وقال النووي في شرحه لحديث: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت قال: معناه: إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه ـ واجبًا كان أو مندوبًا ـ فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، فعلى هذا يكون المباح مأمورًا بالإمساك عنه خوف انجراره إلى الحرام والمكروه. هـ.
فدل الحديث على الترغيب في الصمت, وأن قول الخير أفضل من الصمت، قال أهل العلم: لأن قول الخير غنيمة, والسكوت سلامة، والغنيمة أفضل من السلامة، وكذلك قالوا: قل خيرًا تغنم, واسكت عن شر تسلم.
قال السفاريني في كتابه غذاء الألباب: والمعتمد أن الكلام أفضل لأنه من باب التحلية، والسكوت من باب التخلية، ولأن المتكلم حصل له ما حصل للساكت وزيادة؛ وذلك أن غاية ما يحصل للساكت السلامة، وهي حاصلة لمن يتكلم بالخير مع ثواب الخير.
ونقل عن الحافظ ابن رجب أنه قال: تذاكروا عند الأحنف بن قيس: أيهما أفضل الصمت أو النطق؟ فقال الأحنف: النطق أفضل؛ لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
ونقل عن رجل أنه قال عند عمر بن عبد العزيز الصامت على علم كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالًا؛ وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه.
والله أعلم.