قد يكون السلوك الإنساني عصيا على التفسير في بعض الأحيان ، لأنه وغالبا
تكمن ورائه عدة دوافع ، هي بذاتها خفية ، لكن إن استطعنا تحليل الدوافع ،
سهل علينا تفسير السلوك ، وعرفنا كيف نتعامل معه. سواء كان صادرا من ذواتنا
أو من غيرنا.
قد يبدع الموظف في عمله ، ويتفاني فيه ، ويبذل كل ما يسطيع بكل إخلاص ،
لكنه لا يجد من رئيسه إلا التهميش والإقصاء ، إن لم يجد أحيانا العداوة
والاضطهاد . وقد يفوت عليه الفرص في الترقية أو المكافأة ، بشكل لا يفهمه
هذا المرؤوس ، وكأنه يدفعه دفعا إلى سلوك الخط الآخر وهو التهاون والتلاعب .
وقد تتفوق المرأة وتنجز الكثير ، وربما جمعت بين عمل داخل البيت وخارجه ،
وبين نجاح في تربية الأبناء وإدارة المنزل ورعاية الزوج ، لكنها في المقابل
لا تحظى من الزوج إلا بالانتقاص ، أو النقد أو سوء التعامل. وقد تأخذ (
الغيرة من ) شكل ( الغيرة على ) ، فتأتي غطاءً على سلوكيات التحجير
والتقييد باستخدام السلطة . وكأنه يكره لها هذا النجاح – الذي لو وعاه هو
نجاح له بالضرورة – ولا يرضيه إلا أن يدفعها للفشل دفعا ، أو يلقي بها
هاوية السقوط النفسي والانهيار المعنوي .
وقد يكون الصديق المقرب هو صديق صديقه وعدوه في ذات الوقت ، بسلوك الغيرة
الذي لا يعيه ، والذي قد يأخذ شكل تجاهل النجاحات سواء العملية أو الشخصية ،
أو التقليل من الميزات ، أو حتى عدم المشاركة في مواقف يبادر إلى مشاركتها
الأبعدون ، ويغيب الأصدقاء المقربون. في سلوك يستعصي فهمه على الصديق ولا
يجد فيه الخذلان . وقد تقلب الغيرة معادلة الصداقة برمتها ، فتحيلها رماد
عداوة خالصة.
وبعض الأبناء لا يجدون من الأب إلا الذم والقدح ، رغم صلاحهم واستقامتهم ،
ورغم النجاح في أسرهم وأعمالهم ، ورغم برهم به ، كل قد لا يكفل لهم رضى
هذا الأب ، بل يزال هذا الأب يعاملهم كصغار ، وينظر لهم كأطفال. ويعمد إلى
التقليل من شأنهم ، ومن شأن ما حققوه ، حتى وإن كان غير عادي أو متميزا ،
فإن الأب لا يعترف به أبدا.
إن الغيرة تفسر السلوكات غير المفهومة وغير المبررة والمتناقضة ، لما ينبغي أن نكون عليه ، أو يكون عليه الآخرون تجاهنا.
وهي في معناها الشعوري البدائي ، توصل رسالة مفادها : لست أفضل مني ، ولن تكون كذلك .
وهي إن صدرت من البعيدين فهي غير مستغربة ، لكن غرابتها وجنوحها أن تصدر من المقربين .
وتكمن القضية أن الغالبية لا يتنبهون لكُنْهِ هذا الشعور . والذي يظهر في
صورة أفعال غير منطقية تجاه الآخر ، تُغْطَى بدوافع شتى ومبررات أخرى .
إن المنطق يقول : أن كل من أنجز عملا جيدا ، أو التزم بالمبادئ ، أو حقق
نجاحا في أي مجال من حياته ، أو خدم غيره ، فإنه يستحق الشكر والثناء ،
والإشادة والتقدير .
وإذا حصل منا عكس ذلك ، أو حصل معنا عكس ذلك ، فبلا شك هناك خطا في السياق ، يستلزم التوضيح والتفسير ، ويقتضي المعالجة والإصلاح .
إن الغيرة لا تصدر من محب صادق ، وفي اللحظة الوقتية التي تشتعل فيها نار الغيرة تخبو فيها نار الحب .
ولقد كانت الغيرة البطل الأول في حوادث تاريخية كبرى . فكانت سبب أول جريمة
على وجه الأرض ، حين قتل هابيل أخاه قابيل ، وكانت المحرك الأول لأخوة
يوسف حين رموه في البئر.
وهي شعور طبيعي يولد مع الإنسان مثلها مثل الحب او الكره .لكنها عند البعض تصبح زعيمة مشاعرهم ، وقائدة أفعالهم.
ونحن لن نستطيع أن نتخلص من سلبياتها إلا بتأمل سلوكنا ، وتحليل دوافعنا ،
وملاحظة شعورنا ، وكل ذلك ينقلنا تلقائيا لمرحلة الوعي بالذات .
تلك المرحلة ( الوعي بالذات ) أو (إدراك الذات ) هي مرحلة النضج الحقيقي
للشخصية الإنسانية ، والذي تختفي معه كل المشكلات والاضطرابات.